الاقتصاد العالمي وسفينة نوح

19 مارس 2020
شوارع باريس خلت من الناس (Getty)
+ الخط -


تتسارع الإصابات بعدوى "كوفيد 19" بشكل لوغارتمي. وما بين يوم وآخر، بل ومن لحظةٍ إلى أخرى، نتلقى أخباراً عن زيادة أعداد الذين فحصوا إيجابياً بمعاناتهم من هذا الفيروس القاتل. ومن ثَمّ تأخذ الإجراءات وردود الفعل الحكومية أبعاداً تمعن في تعميق الأزمة الاقتصادية أكثر وأكثر. 

ومن هنا، صار طلال أبو غزالة الذي ناله نقد كبير، بسبب تنبؤاته القاسية عما سيجري عام 2020، موضوع غزل وثناء من ناقديه السابقين الكثر. وقد اقترحت عليه أن يغير اسمه من طلال إلى نوح الذي حذر من الطوفان العظيم، ولكنه اتُهِمَ بالمغالاة، إلى أن وقع الطوفان فنجا معه من ركب سفينته إلى آرارات، ومات من تخلف وراءه من بشر وحيوانات.

ولقد صار وضع الاقتصاد العالمي أقرب إلى تراجيديا يونانية. وبحسب سوفوكليس، (ولد حوالي سنة 496 قبل الميلاد في أثينا وتوفي سنة 405 قبل الميلاد) سيد المسرحيات التراجيدية في اليونان القديمة، فإنها الحالة التي يرى الإنسان فيها قدره المحتوم والمكتوب، ويبذل قصارى جهده لكي يتفاداه، ولكن القدر سينفذ، وسيقع المحظور في نهاية الأمر لا محالة.

شهدت أسواق المال والبورصات في العالم تراجعات درامية لم نشهد مثلها في آخر خمسين سنة. وظن ساحر أميركا، دونالد ترامب، أنه، بالضغط على مجلس الاحتياطي الفيدرالي " البنك المركزي الأميركي" لتخفيض أسعار الفوائد، سوف تأكل أفعاه عصا موسى.

لكن ذلك نجح يوما واحدا، وبعده بدأت أسواق الأموال العالمية سيرتها السابقة، فعاد الساحر إلى الحيلة نفسها، فخفض البنك الفيدرالي أسعار الفوائد صباح الإثنين الماضي وللمرة الثانية في أقل من أسبوعين إلى ما يقارب الصفر، على الرغم من أنه أصدر تقريراً قبل ذلك بيوم، قال فيه إن بقاء سعر الخصم عند (%1.25 - 1.75%) هو المعدل المناسب لأسواق النقد والمال.

وإن نجحت هذه المحاولة في استدراك الأسواق يوما أو يومين، إلا أن الكلمة الحاسمة ستكون لعصا موسى.
ورأينا سعر النفط يهبط في الأسواق العالمية. لا بفعل الأسواق وظروف العرض والطلب، ولكن بأفعال سياسية قامت بها المملكة العربية السعودية، ومن بعدها دولة الإمارات، بزيادة إنتاجهما النفطي ولو مدة قد لا تطول، بمقدار 4 ـ 4.5 ملايين برميل في اليوم، فانهار السوق،

وتدحرج سعر خام برنت حتى وصل إلى 33 دولاراً، وخام تكساس إلى حوالي 31 دولاراً للبرميل. وإذا زادت الدول من إجراءاتها الاحترازية ضد مرض فيروس كورونا " كوفيد – 19، فإن الطلب سينخفض، وسنشهد تداعيات ذلك على سعر النفط الخام.

وشهد الطلب على السلع العالمية الرئيسية مثل البلاتين، والفضة، والنحاس، والألمنيوم والزنك، تراجعات واضحة، في وقتٍ انخفض فيه سعر الذهب قليلاً. أما السلع الغذائية الرئيسية، فقد شهدت أسعارها تذبذباتٍ عالية في السوق العالمية، وداخل الدول.

يعكس المشهد الدولي حالة من التوتر حيال قراءته للمستقبل. هل سيطول أمد هذا الوباء الجديد. ونرى الخبراء في الميدان يكادون يُجمِعون على أن الأزمة قد تمتد إلى ثلاثة أشهر، أو أكثر، قبل أن تبدأ في الانحسار.

ومنهم من يقول غير ذلك، إذ يُتَنبّأ لها أن تبقى معنا. ولكن الدواء الناجع لها سيكون متاحاً لمن يقدر على شرائه، وحتى يتيسر للغالبية العظمى من سكان العالم، وخصوصا في الدول النامية، فإن ذلك قد يطول سنوات، بعد أن تتجمع أرباح هائلة للشركات المطوّرة للعلاج، وللقاح إن توفر.

والآن، وقد استنفذت الولايات المتحدة أدواتها المالية والنقدية في محاربة آثار داء " كوفيد – 19"، فما الذي سيجري في أسواق العالم، إن استمر الحال على حاله وأسوأ لأشهر قادمات، فالولايات المتحدة لم يبق أمامها إلا تخفيض أسعار الفوائد إلى ما دون الصفر، وطباعة تريليونات من أوراق النقد الأميركية، وزيادة مديونية الولايات المتحدة الخارجية لدعم الاقتصاد المحلي الداخلي. وهذا سينتج عنه اضطراب كبير في أسواق البورصات، والعملات، وأسعار صرف العملات، وأسواق السلع وغيرها.
ولمراقبة الأمر أكثر، فإن تكاثر حالات الداء في أوروبا، وتقلب الأسواق في الدول الاقتصادية الرئيسية في العالم، سيعني أن الولايات المتحدة لن تكون وحدها قادرةً على ضبط إيقاع الاقتصاد الدولي.

وسترى المؤسسات المالية الدولية عاجزة عن المتابعة والتأثير، إذ إن دولا كثيرة من التي تحمل ديوناً ستبحث عن وسائل لسد حاجاتها الأساسية، بدلاً من سداد ديونها.

وإذا انهار اقتصاد دولي واحد من الدول ذات الديون المرتفعة، مثل إيطاليا أو إسبانيا، فإن الاقتصاد العالمي سيشهد انتكاسة كبرى.

بعد مرور أزمة فيروس كورونا الحالية، على العالم أن يتساءل: هل يجوز أن يبقى الدولار العملة الرئيسية الوحيدة في العالم، أم إننا بحاجة إلى أفكار الاقتصادي من جامعة كولومبيا الحائز على جائزة نوبل روبرت منديل (كندي الجنسية) بضرورة إيجاد ثلاث مناطق عملات رئيسية لمنع الاضطرابات المستقبلية؟ وهل من المفروض أن ينظم العالم سلسلة التزويد الدولية (International Supply Chain) بحيث تضمن وصول البضائع إلى كل مكان، مهما تعرّض العالم لنكسات وآفات وحروب؟

وهل بات السكوت عن سوء توزيع الدخل والثروة بين الدول، وداخل الدول، جريمة لا تُغتَفر؟ وهل نحن على أبواب مرحلةٍ جديدةٍ نشهد فيها نظاماً اقتصادياً عالمياً يسعى نحو الكفاية، وعدم الاحتكار، وتحقيق التوازن، وإنصاف الضعفاء والمظلومين، والحفاظ على البيئة وما فيها من ثروات مهدّدة؟
المساهمون