الاستعمار الفكري وصراع الحداثة في العالم العربي

20 يونيو 2014

من لوحات حملة نابليون بونابرت الفرنسية في مصر

+ الخط -
يمكن القول إن الصراع الذي نشهده بين القطبين العلماني والإسلامي، والذي بدا أكثر وضوحاً في ظل ما عرف بالربيع العربي، يعود إلى إشكالية الحداثة التي توارثها العرب، منذ بدء حركة الإصلاح في الدولة العثمانية في القرن التاسع عشر. ومنذ ذلك الحين، ما زالت الفجوة بين العلمانيين والإسلامين في الازدياد والاتساع، بشأن صياغة أيديولوجيا الحداثة وطرق اتباعها. ومن الملاحظ أن التضارب بين الطرفين لم يعد مجرد اختلاف في وجهات النظر، أو تعددية فكرية لمجتمع متحضّر، يُحتَرم فيه الرأي والرأي الآخر، بل أصبح عداءً وضغينةً بين أحزابٍ متنافسةٍ، لتنتقل الافكار والآراء من الدفاتر والأقلام إلى ساحات اقتتال وسفك دماء، وتجدّد للصراعات المميتة بين الأحزاب العلمانية والإسلامية، من دون أي تطور فعلي لمشروع الحداثة في الوطن العربي. والسؤال هنا: لماذا لا توجد حلول وسيطة، يتقبّلها الطرفان، لبلورة صورة نهائية لصياغة أيديولوجيا الحداثة، والبدء بمشروع التحديث في الوطن العربي؟
ترجع إشكالية فكرة الحداثة في العالم العربي إلى تزامن تاريخها مع بدء الاستعمار الأوروبي للدول العربية. فانفتاح العرب على الغرب كان من خلال الحملات العسكرية الأوروبية على العالم العربي، وهذه كانت شرارة بدء فكرة الحداثة عند العرب، كما أوضح إبراهيم أبو لغد في كتابه: "إعادة اكتشاف العرب أوروبا"، حيث ذهب إلى أن الحملة الفرنسية العسكرية على مصر، بقيادة نابليون بونابرت عام 1798، كانت الحافز الأول لإيقاظ الشعوب العربية من سباتها العميق، ليبدأ هاجس الحداثة في السيطرة على عقول مفكري العرب، وليبدأ العرب في طور الحداثة والتجديد، خصوصاً مع الإصلاحات زمن محمد علي باشا الذي بدأ حركة "الابتعاث" العلمي إلى الغرب، وأهمها البعثة المصرية إلى فرنسا بقيادة رفاعة الطهطاوي، ما أدى إلى وضع مشروع الحداثة على المسرى الصحيح. لكن الأمر لم يستمر على هذه الصورة، فالاستعمار الغربي في المنطقة العربية عمل على إحداث تغيير جذري فيها، وعلى تحويل الأسس والقيم التي تصاغ من أجل رصف الطرق إلى حداثةٍ مبنيةٍ على نتاج فكري مستمد من عمق الثقافة العربية، إلى قيمٍ وأسسٍ صاغتها القوة الاستعمارية الغربية. ونحن نشهد من التاريخ أنه ما من شعبٍ استُعمِر، حتى تبلورت أسس تحديثه على أنماط ثقافة المستعمر المحتل. وهنا خطر الاستعمار، فالمستعمِر (بكسر الميم) لن يسمح للمستعمَر (بفتح الميم) بالتحديث والتطور، إلا على نسقه وديباجته. فالشعوب المستعمَرة مستعبدة تحت سيادة مستعمريها، ولن يسمح السيد لعبده بالنهوض والتطور ليكون نداً له. وبالطبع، إن رؤية السيد تطوير العبد تصبّ في مصلحة السيد لا العبد. وبما أن الشعوب العربية مستعمَرة، فإن مشروع الحداثة في العالم العربي يجب أن يقوم على أساس خدمة المستعمر الغربي، بالدرجة الأولى، وأن يصاغ بأيديولوجيات غربية أجنبية، لا عربية محلية. وبالطبع، سعى الاستعمار الغربي، وما زال يسعى، إلى إبقاء هيمنته على العالم العربي، وإبقاء سلطته على مشروع الحداثة فيه. 
                     
الثقافة موضوع تنازع
ما سبق، ينقلنا إلى موضوع الثقافة وأهميتها في اللعبة الاستعمارية ومشروع الحداثة. فالثقافة التي تندرج تحت اسمها قيم وأديان ومعتقدات وعادات تجتمع وتكوّن عناصر وأسس المعنى العام لحضارة الشعوب هي التي تستهدف، كمشاريع تحديثية، بغية السعي وراء تحقيق أهداف الحداثة. من هنا، أصبح التلاعب بالعناصر الثقافية للشعوب المستعمَرة (بالفتح) هدفاً من المستعمر، لإحكام السيطرة وإتمام العملية الاستعمارية. فالمستعمِر يدرك أن مفتاح نجاح استعماره هو إنهاء ثقافة الشعوب المستعمَرة، لأن هذا يعني حتمية زوال المقاومة والاستسلام والخضوع للغازي. وإذا ما هدمت ثقافة الشعوب المستعمرة، وأحلّت ثقافة المستعمر بدلاً منها، كما حدث في دول أميركا الشمالية، يتأبّد الاستعمار، ويصبح المستعمِر (بالكسر) صاحب أرض ووطن، ويصير المستعمَر (بالفتح) جزءاً من الماضي، يذكر في القصص أو المتاحف التاريخية. وإذا أبقت الشعوب المستعمَرة على ثقافتها، وصمدت أمام غزاتها، فإنها تختار المقاومة وزوال الاحتلال، وفشل العملية الاستعمارية.   
من هنا، من أسس وأساليب المستعمر لإبقاء قبضته وبسط سيطرته الاستعمارية على الشعوب المستعمَرة، تدمير ثقافة المستعمَر، وإيجاد ما تسمى التبعية الثقافية، أو ما يسمى التغريب في حالة الشرق الأوسط مع الاستعمار الغربي. ولن تحدث هذه التبعية إلا إذا هجرت الشعوب المستعمرة ثقافتها الأم، وتبنّت ثقافة المستعمر. والخطوة الأولى لإحداثها تقديم صورة ثقافة المستعمِر (بالكسر) على أنها المثالية للحداثة، ومن ثمّ التشكيك بصلاحية العناصر الثقافية للشعوب المستعمَرة (بالفتح) وأهليتها للوصول إلى الحداثة. وإذا ما نجح المستعمر في خلخلة الثقة والتشكيك بثقافة الشعوب المستعمرة، هجرت تلك الشعوب ثقافتها، وسعت إلى تبني ثقافة المستعمر، وسيلةَ تحديثٍ لمجتمعاتها. ومن ثم، تُساق تلك الشعوب وراء مستعمريها، كما تساق قطعان الغنم من رعيانها، وتبرز ظاهرة الشعور بالنقص وسلوكيات التقليد والتقمّص لشخصية المستعمر. 
وبالعودة إلى مشروع الحداثة عربياً، نرى أن المستعمر الغربي، ومنذ وطئت قدمه الأراضي العربية، استخدم مشروع الحداثة أيديولوجيةً لتحطيم الثقافة العربية. ولعب الغرب على وتر التخلّف الحضاري الذي ساد العالم العربي في أواخر حقبة الحكم العثماني، واستغلّ رغبة العرب في التحديث، والمضيّ إلى التقدم الحضاري، فبدأ يبث دعائيته الاستعمارية، بغية إقناع الشعب العربي بأن سبب تخلّفه عن القطار الحضاري، وعدم تقدمه لمواكبة الحضارة المعاصرة هو تمسكه بالثقافة العربية. وإذا أراد العرب النهوض والتطور، واللحاق بالأمم الغربية المتحضّرة، يجب عليهم ترك ثقافتهم، وتبني ثقافة الغرب التي سوف تصل بهم إلى بر الحضارة. وقد كتب الدكتور خلدون سمان، في كتابه "صراع الحداثة"، إن "الغرب يسعى إلى إقناع الشعوب المستعمرة بسموّ ورقيّ ثقافة الغرب، وتدني وانخفاض ثقافة الشرق". وأضاف إن الاستعمار الغربي يسعى إلى إقناع شريحة نُخَب المفكرين والسياسيين العرب بعدم أهلية الثقافة العربية الإسلامية، لعدم تماشيها مع متطلبات العصر الحديث. وبالطبع، استهدفت الثقافة الإسلامية، خصوصاً من الغرب، لأنها تمثل العمود الفقري للثقافة العربية، فوضعها في قالب التخلّف الحضاري والرجعية، وأكد أن الديانة الإسلامية لا تصلح أيديولوجية تحديث وتطوير للمجتمع العربي، وأن الدين الإسلامي يشكل عقبة أمام عجلة الحداثة والتقدم والرقي. ونرى ذلك في تصريحات مستعمرين أوروبيين، من أمثال اللورد البريطاني، إفرن بيرينج، الذي كان يرعى المصالح الاستعمارية البريطانية في مصر من عام 1879 إلى1907، حيث قال: "الشعب المصري متخلّف وغير متحضّر من جراء تمسكه بثقافته الإسلامية"، وأضاف: "أما النساء المصريات، فهن مضطهدات من أزواجهن المسلمين، ولا سبل لتحرير النساء من اضطهاد الإسلام، إلا إذا هجروا ثقافتهم الإسلامية، واستبدلوها بالثقافة الأوروبية".
 
لبّ القول، هنا، إنه، وعلى الرغم من استقلال الدول العربية عن الاستعمار العسكري الغربي، فإن الأفكار الاستعمارية الغربية التي كانت سبباً في الشعور بعقدة النقص أمام الأجنبي الغربي، والاقتناع بسمو الثقافة الغربية ورفعتها، في مقابل الثقافة العربية، ما زالت باقية في عقول نخب فكرية وسياسية في العالم العربي. فمنذ تعاظمت ظاهرة التغريب الراديكالية، التي تبناها مفكرون عرب كثيرون، طالبوا بمحو الثقافة العربية والإسلامية واستبدالها بالثقافة الغربية، بغية التطور والحداثة، فإن أفكار كتّابٍ، مثل طه حسين وأنطون شمعون وبطرس البستاني وفارس الشدياق، ما زالت ممتدة إلى أيامنا هذه، ويتبناها مفكرون كثيرون في الحركات السياسية العلمانية، رفضوا الثقافة العربية هوية للعرب، ورفضوا، بشكل متعنت، الحركات والأفكار الأخرى التي تقف في الجانب المقابل. 
 الإسلاميون وعداء العلمانية
من الجانب الآخر، ظهر الاتجاه الإسلامي قطباً معادياً للحركة العلمانية (في الأربعينيات من القرن العشرين)، ونادى بالرجوع إلى الإسلام وأسلمة المجتمع، ورأى أن العودة إلى الإسلام محور الحداثة وسبيل التطور الذي سيعيد إلى الأمة العربية والإسلامية هيبتها وقوتها، كما كانت عليه في فترة الإمبراطوريات الإسلامية. هنا، يمكن القول إن رفض دمج الثقافة العربية والإسلامية في المشروع التحديثي، وإشراك الإسلاميين في الحقل السياسي، أديا إلى ظهور الحركات الإسلامية الراديكالية المتطرفة، كما حدث في الجزائر، مثلاً. وعلى الرغم من أن بروز ظاهرة التطرف الاسلامي يرجع إلى مخلفات الاستعمار العقلي للعرب، بحسب دراسات اجتماعية وسياسية كثيرة، كالتي أجراها التركيان محمد أوزن وأركان أردمير، فقد كان من نتائجها أن الحركات الراديكالية الإسلامية ما هي إلا ردة فعل مباشر على الاستعمار الأوروبي للدول العربية، وخصوصاً الاستعمار البريطاني لمصر في أوائل القرن العشرين. ويعتبر الاسلاميون أن الحركات العلمانية جزء من الاستعمار الغربي للبلاد العربية، وأن أفكار العلمانيين وأيديولوجياتهم في بلورة أسس الحداثة وقيمها ما هي إلا مشروع استعماري. من هنا، كان رفضهم أي سبل الحوار مع العلمانيين، وعدم قبولهم مبدأ العلمانية، ليكون ولو جزءاً من مشروع الحداثة في العالم العربي. وقد أدى هذا إلى تعنت الحركات الإسلامية في أفكارها وانغلاقها، ووضع مَن لا يتّفق معها في موضع العدو والمؤيد للاستعمار.
نستخلص من ذلك أن بذور الاستعمار الغربي تنامت وتغلغلت في أوساط المجتمعات العربية، ما أدى إلى التطرف المؤدي إلى الانقسام والاقتتال. أحدث الاستعمار إشكالية الرفض والتعنت الفكري لدى الفرق الفكرية المختلفة في العالم العربي، ورفض التعددية الثقافية والفكرية كأسس لبناء مشروع الحداثة، ما يؤدي إلى مبدأ الاحتكار الفكري، ويدفع كل طرف إلى الانعزالية، ومن ثم إلى التطرف.
والدول العربية، وإن استقلت عسكرياً عن دول الاستعمار الغربي، فإنها ما زالت تعاني من الاستعمار الفكري الذي أدى إلى الانقسامات والاقتتال والعنف في مجتمعاتها. وكما قال فرانز فانون، عند دراسته الاحتلال الفرنسي للجزائر: "ضروري بعد طرد المستعمرين من البلاد المستعمَرة تنظيف عقول شعوبها من جذور الاستعمار التي زرعها المستعمرون الغزاة". وبذلك، الطريق إلى الحداثة هو الخلاص من سموم الاستعمار الفكري، وغسل العقول من كل معتقد بناه المستعمر، فإن حدث ذلك، وتحررت عقول العرب من قيود الفكر الاستعماري، نمت أخلاقيات الاعتراف بالتعددية الثقافية والفكرية، كما سماها باترك سافيدان، ونمت القدرة على قبول الآراء المختلفة والفهم والإدراك، وتقبّل الحوار والمشاركة العقلانية. عندها، تتحرك عجلة التطور والتقدم نحو الأفضل، وتلحق بلاد العرب بمَن سبقها بقطار التطور والتقدم، وتغدو نداً للأمم الأخرى، لا تابعة لمستعمريها.
 
 
AE9F0D1F-A405-43B4-A7EA-2E653D1712EE
عاصم الخواجا

كاتب سعودي