الاستجابة الأردنية لتحدّي كورونا

14 ابريل 2020
+ الخط -
حظيت روح المبادرة الأردنية السريعة، بما اشتملت عليه من إجراءاتٍ تحوطية صارمة، وتدابير احترازية ملموسة، إزاء خطر انتشار فيروس كورونا، بدرجة طيبة من القبول والارتياح الداخلي، جرّاء ما تتمتع به الإدارة الحكومية والأجهزة التنفيذية من ثقةٍ تم اختبارها في مناسباتٍ سابقة، إلا أن هذه الروح المثيرة لأحسن الانطباعات حازت على أعلى درجة ممكنة من الإعجاب، وعلى تقريظٍ أوسع من المحيط العربي المجاور، عبّرت عنه شخصياتٌ مرموقة، ساسة وكتاب ومواطنون، وإعلاميون ذوو سمعة حسنة، في الكويت وقطر ولبنان ومصر والعراق وغيرها، الأمر الذي زاد كثيراً من ثقة الأردنيين بأنفسهم.
كان لافتاً للمراقبين في الخارج دخول الجيش وقوى الأمن على خط الأزمة في وقت مبكر، وسط ترحيب المواطنين واستحسانهم، حضور أقدم مؤسّسة أردنية، وأشدّها موثوقية، في أنظار شعب متعلق بقواته المسلحة التي عمرها من عمر بلدٍ تأسس على تخوم المعسكر، حيث كبرت النواتان، البلد والجيش، وتطوّرتا معاً، فيما لم يستهجن توظيف أبناء البدو والحرّاثين في العمل على رد الجائحة سوى قلة قليلة، ممن لديهم أفكارٌ مسبقة، وصورةٌ نمطيةٌ مغرقةٌ في سلبيتها عن الجيوش التي تصادر الحريات وتقمع المواطنين، وهي صورةٌ تبدّدت سريعاً، بفضل الأداء الحضاري، ولين العريكة بين الجنود والناس في الرواح والغدو.
واستكثر بعض المتوجسين رزمة التدابير التي تم حشدها دفعة واحدة، للتعامل مع خطر الوباء قبل أن يستفحل، ورأوا فيها نوعاً من المبالغة الزائدة عن الحد، سيما وأن انتشار الفيروس كان محدوداً في حينه، وأن الأمر لا يحتاج تدخل الجيش ولا يستلزم فرض الحجْر المنزلي وحظر التجول، غير أن الأيام التالية أوضحت أن هذه السياسة الاستباقية كانت في محلها تماماً، وأن فرضها بالقوة الجبرية كان ينمُّ عن إدراك وبعد نظر، لما قد يؤول إليه الحال اذا تُرك الحبل على الغارب، وظلت الدولة مسترخية قبالة هذا العدو غير المرئي، على نحو ما حدث في أوروبا.
ولعل مصدر الإعجاب الممزوج بقدر كبير من الاحترام والتقدير، سيما من خارج الأردن، نابع من الدهشة بكفاءة واقتدار بلد شحيح الموارد ومحدود المقدرات، مقيم على حافّة الصحراء، سكانه خليط من الحضر والعشائر واللاجئين الفقراء، تمكّن في وقت قصير من احتواء الوباء، وتصغير أعداد المصابين إلى أدنى المستويات، قياساً بدول الجوار على الأقل، ما أهله لانتزاع أفضل الانطباعات، وجعله قدوةً يُقتدى بها في الاستجابة للتحدّي المباغت، والإمساك بزمام المبادرة، وهو ما رفع الروح المعنوية لعامة الأردنيين، وعمّق حالة الاطمئنان لديهم بالقدرة على تجنب مصائر شعوبٍ وقعت في براثن الإنكار والاستخفاف.
إذا كان الفضل يُنسب لأصحابه، فمن نافل القول واجب رد هذا النجاح النسبي اللافت في احتواء الوباء إلى القيادة الأردنية التي لا تنتظر مديحاً من كاتبٍ لا يزال مطلوباً منه، كلما سافر وعاد، مراجعة الجهاز الأمني. وعليه، إن أردنا أن نسمّي الأشياء بأسمائها، ينبغي القول إن الملك عبد الله الثاني، بروحه الشابّة، مع أن البياض غزا مفرقيه، هو القوة المركزية المحرّكة لمثل هذا الأداء الباهر، تليه ملكةٌ ترفع الرأس، ومن ثمّة خلية أزمة يقودها رئيس وزراء لا خلاف على وطنيته وكفاءته ونقاء سريرته، في غياب كامل من مجلسي النواب والأعيان والأحزاب والمجتمع المدني، الأمر الذي وفر، على الرغم من هذه القصورات، رافعةً قويةً لهذا النجاح.
عندما تنتهي فصول هذه المعركة مع كورونا في مستقبلٍ قد لا يكون بعيداً، وبقيت الأمور تحت السيطرة، سوف يدوّن المؤرخون وقائع هذه المرحلة أنها قصة نجاح أردنية، مرّت بالحد الأدنى من الخسائر المادية والآلام البشرية، بفضل أصحاب الفضل المشار إليهم آنفاً، هؤلاء القائمين مقام ربّ الأسرة، في حنوّه الغريزي على أولاده وبناته، وقسوته الأبوية الهينة اللينة على ذويه كافة، ناهيك عن صبر المخاطبين بهذه الأزمة وتعاضدهم، بمن فيهم الآباء والأمهات، العمال والطلاب وأرباب العمل، ممن تجلت لديهم قوة التحمّل على الشدائد، وتفهم الضرورات الملحّة، لتحاشي النموذج الإيطالي مثلاً، أو الإيراني على سبيل المثال، وذلك من أجل إعادة إنتاج صورة بلد كان في حجم التحدّي، رغم قلة ما في يمينه.
45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
عيسى الشعيبي

كاتب وصحافي من الأردن

عيسى الشعيبي