وكانت الاتفاقية الدفاعية البريطانية الفرنسية الخاصة بالاتحاد الأوروبي قد ولدت قبل 19 عاماً، لتقود إلى برنامج التعاون المنظم الدائم (بيسكو) الذي تم الاتفاق عليه البارحة. إلا أن بريطانيا كانت قد أدارت ظهرها للمشروع، بسبب توسيعه ليشمل جميع دول الاتحاد، بسبب اعتقادها أن تشكيل قوة دفاعية أوروبية سيقوّض مهمة حلف شمال الأطلسي "ناتو".
وتأتي هذه الخطوة بعد الانتقادات التي وجهها الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، إلى حلف شمال الأطلسي، متهماً الدول الأوروبية بعدم تحمّل حصتها من النفقات الدفاعية. ولكي لا تضطر الدول الأوروبية للاعتماد على الولايات المتحدة في شؤونها العسكرية، تم تطوير هذه الخطوة.
وبالفعل فإن الدول الأوروبية أظهرت عجزاً في التعامل مع التهديدات العسكرية التي تواجه القارة العجوز، ومنها حرب البلقان في تسعينيات القرن الماضي، إذ لم تستطع أوروبا التحرّك قبل التدخل الأميركي المباشر. كما أن حملة القصف التي أسقطت نظام العقيد الليبي الراحل، معمر القذافي، التي باشرها الرئيس الفرنسي الأسبق، نيكولا ساركوزي، ورئيس الوزراء البريطاني السابق، ديفيد كاميرون، اضطرت إلى طلب الدعم الأميركي كي تستطيع الاستمرار.
كما أن الاتهامات الموجهة إلى ترامب بالحصول على دعم روسي خلال حملة الانتخابات الرئاسية الأميركية، والأسئلة المطروحة حول العلاقة بين البيت الأبيض والكرملين في عهده، إضافة إلى المحاولات الروسية للتلاعب بالديمقراطيات الغربية، من خلال توفير الدعم لليمين المتطرف، جميعها أسباب تدفع الدول الأوروبية نحو تكامل أوسع في منظوماتها الدفاعية.
وسيفتح الاتحاد الأوروبي المجال للدول الأوروبية من خارج الاتحاد للانضمام إلى "بيسكو" لاحقاً، شرط الدخول في مفاوضات خاصة بهذا التعاون، وقبول تمويل البرنامج، وهو ما سينطبق على بريطانيا بعد خروجها من الاتحاد.
إلا أن الاتحاد الأوروبي لا يمتلك كثيراً من الثقة بوضع الحكومة البريطانية الحالي، أو بتصريحات وزير الخارجية البريطاني، بوريس جونسون. وبينما قال جونسون الشهر الماضي إن بريطانيا مهتمة جداً بالتعاون الأمني مع الاتحاد الأوروبي ودعم البرنامج، يرى مسؤولون في الاتحاد أنه يصعب تصديق جونسون الذي قال خلال استفتاء "بريكست" أن 100 مليون تركي سيأتون إلى بريطانيا إذا بقيت في الاتحاد الأوروبي، وليذهب بعد "بريكست" إلى تركيا ليقول إن بريطانيا ستعمل ما بوسعها كي تنضم تركيا إلى الاتحاد الأوروبي.
من ناحية أخرى، تشهد القمة الأوروبية مناقشات مستمرة حول خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. فبعد التوصل إلى اتفاق حول النقاط الأساسية في المرحلة الأولى من المفاوضات يوم الجمعة الماضية، أعلن قادة الاتحاد عن رضاهم عن المفاوضات وأعطوا الضوء الأخضر بالانتقال إلى المرحلة الثانية من المفاوضات، الخاصة بالاتفاق التجاري بين الطرفين.
إلا أن الاتحاد الأوروبي لن يباشر المحادثات التجارية قبل شهر مارس/ آذار المقبل، ليفسح المجال أمام تطوير التفاهمات التي تم التوصل إليها الأسبوع الماضي، ونقاش المرحلة الانتقالية، إضافة إلى منح مزيد من الوقت للجانب البريطاني لتشكيل رؤيته الخاصة عن العلاقة المستقبلية مع الاتحاد الأوروبي.
وتحاول رئيسة الوزراء البريطانية، تيريزا ماي، الضغط، من دون جدوى، على قادة الاتحاد لبدء المحادثات التجارية بأسرع وقت ممكن. فحكومة ماي لا تمتلك كثيراً من الوقت للتوصل إلى اتفاق نهائي مع الاتحاد الأوروبي، كون الموعد المحدد لبريكست يقع في نهاية مارس/ آذار 2019، ونظراً لصعوبة المفاوضات وسيرها حتى الآن يستبعد احتمال توصل الطرفين إلى اتفاق نهائي خلال عام.
كما أن هزيمة حكومة ماي في البرلمان البريطاني هذا الأسبوع لا تقوض من حرية وضعها التفاوضي فحسب، بل إن التعديل الذي تمكنت المعارضة من تمريره في مجلس العموم البريطاني ينص على تحويل الصفقة النهائية مع الاتحاد الأوروبي إلى قانون تتم مناقشته في البرلمان والتصويت عليه قبل خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي رسمياً. ويعني ذلك أن الاتفاق يجب أن يتم قبل مارس/ آذار 2019 بشهرين على الأقل، أو أن يتم تأجيل موعد بريكست حتى تنتهي المناقشات البرلمانية.
وتحاول ماي إقناع الاتحاد الأوروبي بأنها لا تزال تمسك بزمام الأمور في لندن، رغم الانطباع السائد بين دول الاتحاد بضعف موقف حكومتها، الذي سيؤثر حتماً على قدرة فريقها التفاوضي على الوصول إلى اتفاق أو تمريره في مجلس العموم. وهو ما دفع بعض القادة الأوروبيين، مثل رئيس وزراء النمسا كريستيان كيرن، إلى الأمل بأن تعدل بريطانيا عن قرارها بالانسحاب من الاتحاد.
إلا أن رئيس الوزراء الأيرلندي، ليو فارادكار، كان أكثر واقعية في تصريحاته، إذ يرى أن المفاوضات التجارية لن تبدأ قبل الربيع المقبل "الجدول الذي لدينا يقضي بأن نعمل في الأشهر الثلاثة المقبلة على اتفاق الانسحاب، وتحويل ما تم الاتفاق عليه الأسبوع الماضي إلى اتفاقية قانونية دولية، ومناقشة الفترة الانتقالية الخاصة بالسنتين المقبلتين. وعندما ننتهي من ذلك، سنبدأ الحديث حول العلاقات التجارية".