07 نوفمبر 2024
الإيرانيات يخضن معركة الحجاب
معاني الحجاب متنوّعة ومتناقضة. هناك الحجاب التقليدي الذي ارتدته جداتنا، ولم تلغِه الموجات الحداثية، إنما أبطلته موجة الإسلام السياسي. وهناك الحجاب الرافض للسلطة الحاكمة، كالذي راجَ في سورية، بدءاً من الثمانينات، إثر الحملة التي خاضتها قوات "سرايا الدفاع" التابعة لرفعت الأسد، بانتزاع حجاب كل امرأةٍ في الشارع، بقوة العضلات. وهي حملةٌ أتت بعد المعركة الدموية التي خاضها أخوه حافظ الأسد ضد "الإخوان المسلمين". ومثله الحجاب التركي في زمن حكم العسكر، وعشية بلوغ الإسلامي، رجب طيب أردوغان، السلطة. وهناك حجاب فرضه المجتمع، وهو أقوى من أي حجابٍ آخر؛ مثل الحجاب الذي أخذ يغزو مصر تدريجياً بعد الفشل الناصري والصعود الإسلامي. وهناك أيضاً حجاب "الهوية"، شاع في بلاد الغرب التي استقبلت مهاجرين أو لاجئين من الدول الإسلامية. وقد عرف من بين صاحباته تيارات إسلامية عديدة، تبدأ بالمفاهيم الداعشية عن المرأة ولا تنتهي عند إمامة مسلمات للصلاة، وبروز "النسوية الإسلامية" التي تضم عضوات غير محجبات. ومثله حجاب هوية آخر، ولكن بمضامين طائفية مذهبية، كالحجاب اللبناني الذي يمكن أن تعرف من بعيد إذا كانت صاحبته سنيةً أو شيعية أو درزية. أيضا: الحجاب بدواعٍ شخصية، مثل رحيل شخص عزيز، أو طلاق، أو فشل؛ أو بالعكس، بحثاً عن عريس، أو نجاح أو تحقيقاً لنذر. وثمّة نوع أخير، يكون للدولة فيه قانون يلزم ارتداء الحجاب تحت طائلة العقوبة. وأبرز الدولتين المتعاملتَين بهذ المنطق مع الحجاب هما المملكة العربية السعودية والجمهورية الإسلامية الإيرانية. ولكن مع فرق هائل بينهما: الأولى لم تعرف حكماً سياسياً غير الذي يسود الآن، فيما خاضت الثانية مع الشاه معركة إلباس الحجاب، بعدما كان هو شارعاً في نزعه.
وبما أن الحجاب ينطوي على معانٍ بعينها، فإن السفور الذي فرضه الحكم الشاهنشاهي رافقته
مجموعة من القوانين الإيجابية للمرأة الإيرانية، منها: رفع سن الزواج للأنثى من ثلاثة عشر عاماً إلى ثمانية عشر، وضع القيود القانونية على تعدّد الزوجات، تشجيع الاختلاط في المدارس، حثّ النساء على التعليم والعمل البرلماني، (22 نائبة أيام الشاه).. إلخ. من دون أن يعني ذلك أن حكم الشاه كان وطنياً، أو ديمقراطياً، أو "تنموياً".
ثم جاء الإمام الخميني بثورته الاسلامية (1979)، وكانت أولى قراراته فرض الحجاب بالقانون على الإيرانيات (البند 683 من القانون الجنائي). وقد استتبعته مباشرةً إضراباتٌ وتظاهراتٌ نسائية حاشدة، احتجاجاً على هذا المرسوم، لكنها لم تجد الصدى، ولا الفعل اللازم في وقتها. إذ غلبت الحماسة للثورة، وانقضّ الملالي على السلطة، ليطردوا منها كل من شارك فيها من غير طينتهم: الشيوعيين، الاشتراكيين، الإصلاحيين، الليبراليين، وطبعا النساء. وكانت كل هذه الفئات قد ساهمت في إنجاح الثورة. جميعهم إما أُعدِموا أو لوحقوا أو طردوا أو أُسكتوا أو حُيّدوا. فكانت الإجراءات القانونية ضد النساء، ويتصدرها الحجاب؛ بقوة "شرطة الأخلاق" والمحاكم الدينية، وقد استعادت كل الامتيازات الجنسية والاجتماعية التي كان الرجال يتمتعون بها، قبل أن يصلح الشاه بعضاً منها. منها إعادة سن الزواج إلى الثلاثة عشر، بمجرّد "تكليف" للأب، تسهيل تعدد الزوجات، فضلاً عن زواج المتعة، إقامة الحدود "الشرعية"، مثل الرجم بحق أية امرأة "آثمة"، منع حرية الطلاق على المرأة، إلا بموافقة الرجل، مقابل إطلاق حرية الرجل بالطلاق كيفما شاء، إلغاء قانون حماية العائلة، منع الاختلاط في المدارس والجامعات والمدرجات، وحتى التظاهرات. فضلاً عن التعامل مع المرأة بصفتها نصف رجل، كما في شهادة المرأة في المحاكم، أو فديتها في حال مقتلها. وأخيرا عام 2005، بعدما لاحظت السلطة الدينية انخفاض نسبة المواليد، منعت توزيع حبوب منع الحمل مجاناً، لتضع حول رقبة النساء، الفقيرات خصوصاً، حبل الحمل غير المرغوب، فتكتمل بذلك حلقة البؤس.
الإيرانيات لم يستسلمن. خضن معارك البقاء بما توفّر لهن من فُسْحات. في التعليم، في العمل، في مليون حيلة وحيلة وجدنها لتسيير شؤون حياتهن. ليست حركة خلع الحجاب جديدة تماما عليهن. بدأت بإرخاء هذا الحجاب قليلا، وإظهار بعض من الشعر، والشرطة الأخلاقية تلاحقهن، وتصف حجابهم بـأنه "خاطئ". وقبل أربعة أعوام، خيضت معركة افتراضية، عبر مواقع التواصل، هي صور لإيرانيات من دون الحجاب، في أماكن مختلفة، على شاطئ البحر خصوصاً، بما يجسده من انطلاق. واسم الحملة "الحرية البطيئة".
الآن، تقدمت المعركة خطوة، من العالم الافتراضي إلى العالم الواقعي: ففي خضم التظاهرات
الشعبية التي انطلقت في نهاية السنة الماضية، كانت الشابّة الإيرانية ويدا موحد، في "شارع" الثورة، تقف فوق ما يشبه صندوقا ضخما لمولد الكهرباء، حاملة عصا رفيعة، واضعةً حجابها على طرفه، وملوِّحة به أمام المارة. "الشرطة الأخلاقية" قامت بعملها، سحبت ويدا موحد إلى السجن شهرا، أطلقتها من بعده. ولكن الحركة الرمزية هذه اتخذت، أخيرا، حجماً، بحيث إنه بات للشابة مقلِّدات، يكرّرن على الملأ الحركة ذاتها. حجابهن على طرف عصا، يقفن فوق مساحةٍ مرتفعةٍ صلبة، يلوحن بهذا الحجاب، يسجلنه ويرسلنه على "يوتيوب". ثلاثون امرأة من بين أولئك الشجاعات دخلن حتى الآن السجن، وليس معروفا تماماً إن كن سيقمن فيه، أو يخلَين أو يجلَدن.. ولكن يبقى أن الإيرانيات إرتقَين درجةً نحو ترميز معركتهن، وإيصالها إلى الباقيات من بينهن؛ واحدة من الوقْفات كانت صاحبتها ريفيةً تلبس التشادور الإيراني، تحمل عصا على طرفه منديل، وتقول "أنا أحب الحجاب الإسلامي، ولكنني ضد أن يكون إلزامياً". والحركة مستمرة، صار لها يوم في الأسبوع، وهو الأربعاء، واسم أيضاً هو "حملة الأربعاء البيضاء"؛ أو الخروج سافرةً كل أربعاء.
ردة فعل السلطة، كالعادة، ألقت اللوم على "عملاء الخارج"، وهدّدت شرطة الأخلاق النساء بالسجن الدائم، في حال استجابتهن للحملة. أما النائب العام، محمد جعفر منتظري، فقد سخّف الحركة برمتها، وصفها بـ"الصبيانية"، وبأن "لا معنى لها، وليس فيها ما يقلقنا". نضال الإيرانيات النسوي عكس ذلك تماماً. التيار الأعرض من النساء راهن على الجناح الإصلاحي، وكان جمهور محمد خاتمي الإنتخابي، وبعده جمهور حسن روحاني، يعتقد أن بلوغ هذا الجناح السلطة قد يكون أقل سلبيةً إزاء حقوقهن من الجناح المتشدّد. ولكن رئاسة روحاني، بعد خاتمي، خيّبت تطلعاتهن، على الرغم من لسانه الملطَّف، فهو أصلاً ضعيف في التركيبة الحاكمة. ولم يكن له يد في أخطر مشاريع القوانين الصادرة عن دولته: قانون "دعم من يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر"؛ بمعنى آخر، قانون زرع أعين السلطة داخل شقوق المجتمع ومتْنه. فما بالك لو تعلق الموضوع بحركةٍ بائنة، غير سرية مثل "حملة الأربعاء البيضاء"؟ تسخيف أمر الحجاب يكشف عن خبث سلطوي ومكر ذكوري. فاذا كان فعلاً بهذه الهيافَة، لماذا إذن يصدر قانوناً بإلزامه، تحت طائلة العقوبات؟ ولماذا يرتبط هذا القانون بحرمان النساء من حقوقٍ مكْتسبة في زمن الشاه؟ كانه، أي الحجاب، هو رمز هذا الحرمان؟
المعركة النسوية في إيران مستمرة، وباتَ لها رمز وكلمات ومشاهد بصرية ونشاط أسبوعي. يبقى كيفية شبْكها مع معارك الحريات العامة، والاقتصاد المهترئ شبه المنهار، واحتكار الحرس الثوري العنف والثروات. وقبل ذلك، أو خلاله، معركة ادخار طاقات إيران من أجل معركة تنميتها، لا بعثرتها في مشاريع إمبراطورية في المشرق، لم تزرع فيه سوى الدمار.
وبما أن الحجاب ينطوي على معانٍ بعينها، فإن السفور الذي فرضه الحكم الشاهنشاهي رافقته
ثم جاء الإمام الخميني بثورته الاسلامية (1979)، وكانت أولى قراراته فرض الحجاب بالقانون على الإيرانيات (البند 683 من القانون الجنائي). وقد استتبعته مباشرةً إضراباتٌ وتظاهراتٌ نسائية حاشدة، احتجاجاً على هذا المرسوم، لكنها لم تجد الصدى، ولا الفعل اللازم في وقتها. إذ غلبت الحماسة للثورة، وانقضّ الملالي على السلطة، ليطردوا منها كل من شارك فيها من غير طينتهم: الشيوعيين، الاشتراكيين، الإصلاحيين، الليبراليين، وطبعا النساء. وكانت كل هذه الفئات قد ساهمت في إنجاح الثورة. جميعهم إما أُعدِموا أو لوحقوا أو طردوا أو أُسكتوا أو حُيّدوا. فكانت الإجراءات القانونية ضد النساء، ويتصدرها الحجاب؛ بقوة "شرطة الأخلاق" والمحاكم الدينية، وقد استعادت كل الامتيازات الجنسية والاجتماعية التي كان الرجال يتمتعون بها، قبل أن يصلح الشاه بعضاً منها. منها إعادة سن الزواج إلى الثلاثة عشر، بمجرّد "تكليف" للأب، تسهيل تعدد الزوجات، فضلاً عن زواج المتعة، إقامة الحدود "الشرعية"، مثل الرجم بحق أية امرأة "آثمة"، منع حرية الطلاق على المرأة، إلا بموافقة الرجل، مقابل إطلاق حرية الرجل بالطلاق كيفما شاء، إلغاء قانون حماية العائلة، منع الاختلاط في المدارس والجامعات والمدرجات، وحتى التظاهرات. فضلاً عن التعامل مع المرأة بصفتها نصف رجل، كما في شهادة المرأة في المحاكم، أو فديتها في حال مقتلها. وأخيرا عام 2005، بعدما لاحظت السلطة الدينية انخفاض نسبة المواليد، منعت توزيع حبوب منع الحمل مجاناً، لتضع حول رقبة النساء، الفقيرات خصوصاً، حبل الحمل غير المرغوب، فتكتمل بذلك حلقة البؤس.
الإيرانيات لم يستسلمن. خضن معارك البقاء بما توفّر لهن من فُسْحات. في التعليم، في العمل، في مليون حيلة وحيلة وجدنها لتسيير شؤون حياتهن. ليست حركة خلع الحجاب جديدة تماما عليهن. بدأت بإرخاء هذا الحجاب قليلا، وإظهار بعض من الشعر، والشرطة الأخلاقية تلاحقهن، وتصف حجابهم بـأنه "خاطئ". وقبل أربعة أعوام، خيضت معركة افتراضية، عبر مواقع التواصل، هي صور لإيرانيات من دون الحجاب، في أماكن مختلفة، على شاطئ البحر خصوصاً، بما يجسده من انطلاق. واسم الحملة "الحرية البطيئة".
الآن، تقدمت المعركة خطوة، من العالم الافتراضي إلى العالم الواقعي: ففي خضم التظاهرات
ردة فعل السلطة، كالعادة، ألقت اللوم على "عملاء الخارج"، وهدّدت شرطة الأخلاق النساء بالسجن الدائم، في حال استجابتهن للحملة. أما النائب العام، محمد جعفر منتظري، فقد سخّف الحركة برمتها، وصفها بـ"الصبيانية"، وبأن "لا معنى لها، وليس فيها ما يقلقنا". نضال الإيرانيات النسوي عكس ذلك تماماً. التيار الأعرض من النساء راهن على الجناح الإصلاحي، وكان جمهور محمد خاتمي الإنتخابي، وبعده جمهور حسن روحاني، يعتقد أن بلوغ هذا الجناح السلطة قد يكون أقل سلبيةً إزاء حقوقهن من الجناح المتشدّد. ولكن رئاسة روحاني، بعد خاتمي، خيّبت تطلعاتهن، على الرغم من لسانه الملطَّف، فهو أصلاً ضعيف في التركيبة الحاكمة. ولم يكن له يد في أخطر مشاريع القوانين الصادرة عن دولته: قانون "دعم من يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر"؛ بمعنى آخر، قانون زرع أعين السلطة داخل شقوق المجتمع ومتْنه. فما بالك لو تعلق الموضوع بحركةٍ بائنة، غير سرية مثل "حملة الأربعاء البيضاء"؟ تسخيف أمر الحجاب يكشف عن خبث سلطوي ومكر ذكوري. فاذا كان فعلاً بهذه الهيافَة، لماذا إذن يصدر قانوناً بإلزامه، تحت طائلة العقوبات؟ ولماذا يرتبط هذا القانون بحرمان النساء من حقوقٍ مكْتسبة في زمن الشاه؟ كانه، أي الحجاب، هو رمز هذا الحرمان؟
المعركة النسوية في إيران مستمرة، وباتَ لها رمز وكلمات ومشاهد بصرية ونشاط أسبوعي. يبقى كيفية شبْكها مع معارك الحريات العامة، والاقتصاد المهترئ شبه المنهار، واحتكار الحرس الثوري العنف والثروات. وقبل ذلك، أو خلاله، معركة ادخار طاقات إيران من أجل معركة تنميتها، لا بعثرتها في مشاريع إمبراطورية في المشرق، لم تزرع فيه سوى الدمار.