الإيديولوجيا ملاذاً من الواقع

31 يوليو 2019
+ الخط -
في أوائل العام 2001 وبُعيد مجيئه رئيساً لسورية خلفاً لأبيه، أصدر بشار الأسد مرسوماً جمهورياً يسمح فيه لأحزاب الجبهة الوطنية التقدمية، ومقرّبين من القطاع الخاص، بإصدار صحف تتوافق مع شعار "التطوير والتحديث ومكافحة الفساد" الذي أتى عنواناً لمرحلته الجديدة، وكان الرفيق "الخالد" حافظ الأسد قد تجاهل نصاً في ميثاق الجبهة يقول بصحيفة علنية جماعية تحمل اسم الجبهة، ولعله النص الوحيد الذي يعبِّر، في الواقع الحي، عن "خصوصية ما" لتلك الجبهة، وتمايزها عن حزب البعث الذي يمنحه الميثاق الأكثرية والقيادة والتفرُّد التنظيمي في الجيش وبين الطلبة، أي في نخبتي "الرأس والبسطار..!". 
وحينذاك، شكّل الحزب الشيوعي السوري/ جناح يوسف الفيصل، لجنة لإعادة إصدار صحيفة النور التي كانت تصدر في خمسينيات القرن الماضي، وفي خضمِّ التحضير لذلك الحدث "الجلل"، اختلفت اللجنة بشأن أمرين: وضع شعار المنجل والمطرقة في أعلى الصفحة الأولى، تعبيراً عن انحياز الصحيفة لما يمثله ذلك الرمز من ميل إلى طبقتي العمال والفلاحين. ووضع عبارة "ناطقة باسم اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوري" تحت عنوان الصحيفة، عِلْماً أن الصحيفة حرة، ويفترض أن تفتح صفحاتها للكتاب السوريين، بل للكتاب العرب كافة.
يعبر الأمران عن تفكيرين متعاكسين، وبالتالي، عن تيارين متباينين في الرؤية لدور الحزب 
والصحيفة على السواء، فإما أن تكون الصحيفة ملك الحزب، أو يكون الحزب والصحيفة ملكاً للشعب.. إذ يضيِّق الرأي الأول، كما هو واضح، على هيئة التحرير ويخضعها لرقابة حزبية، وهو بذلك يعاكس غاية الصحيفة كلها، ومفهوم الحزب أيضاً. بينما يمتلك الفريق الآخر رؤية أوسع، تتوافق مع التطورات التي حدثت على الحركة الشيوعية، بعد سقوط الاتحاد السوفييتي.. إضافة إلى أن صحيفة النور لم تكن، في خمسينيات القرن الماضي، تحمل أي شعار، إذ كانت تحمل اسمها واسم مؤسسها، عبد الباقي الجمالي، وعبارة: "جريدة سياسية مستقلة" فحسب، شأن بقية الصحف التي يظهر توجهها من خلال ما يكتب فيها معبراً عن مواقف محدّدة، وإن كانت في الإطار العام منفتحة على الجميع، ولكنَّ رأيها ورؤيتها واضحان دونما أيِّ لبس.
في نهاية النقاش أو الجدل، وصل الطرفان إلى حل وسط، إذ بقي الشعار، لكنه نقل إلى الصفحة الأخيرة حيث التعريف بالصحيفة، وقد ألغيت العبارة الحزبية كلياً، واستعيض عنها بعبارة "يصدرها الحزب الشيوعي السوري.."، واتفق على أن تكون افتتاحية الصحيفة متوافقة مع سياسة الحزب العامة، كما أحدثت زاوية للرأي الآخر، كانت حرة إلى حد ما، إذ تبيح للكاتب شيئاً من الحرية، بما في ذلك انتقاد الحزب الشيوعي نفسه. أمَّا المحرَّم على الكتَّاب أجمعين، بمن فيهم كتّاب الصحيفة نفسها، الخوض في قدسية كرسي الرئاسة، وحرم عسكره..!
هذه مجرد مقدمة للدخول في موضوع الرمز، ونسبية دلالته، وحركة الواقع وحاجته إلى تعديل رمزه إن اقتضت الضرورة. ويقودنا هذا الأمر إلى الحزب الشيوعي السوري وتمسكه بالرمز، أَرَجُلاً كان أم شعاراً أم فكرة ما. وقد لُمِح ذلك لدى كل انقسام جرى داخل الحزب، إذ بلغ عدد الانقسامات منذ العام 1972 نحو ثمانية، إذ كان الحرص على إبقاء الاسم الرسمي مضافاً إليه صفة ما لها علاقة بالإيديولوجيا، لا بالواقع وضروراته السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية التي اقتضت تحولاً فكرياً ما. وهكذا كان "الحزب الشيوعي السوري/ المكتب السياسي"، و"الشيوعي/منظمات القاعدة"، والشيوعي/ الموحَّد"، والشيوعي "الكادر اللينيني"، و"حركة اتحاد الشيوعيين"، و"هيئة وحدة الشيوعيين السوريين". وثمة تقسيمات أخرى لمعت وانطفأت من دون ضجيج يذكر، وقد رافق ذلك كله تفنّن في رسم شعار المنجل والمطرقة بأشكال مختلفة (!).
قبل نقاش مفهوم شعار المنجل والمطرقة، لا بد من الإشارة إلى أن ماركس كان واقعياً يستمد أفكاره من تحليل الواقع الاقتصادي والاجتماعي القائمين آنذاك، وقد رأى صعود الطبقة العاملة والظلم الواقع عليها، إضافة إلى علاقتها بأداة الإنتاج (الآلة) التي تمنح الذهن حركة ونمواً فكرياً، فرأى في الطبقة الصاعدة إمكانية تحرير نفسها أولاً، وتحرير المجتمع برمته من عبودية الآلة ورب العمل في آن واحد، ما دام قد اكتشف فضل القيمة الذي يُخضع الطبقة العاملة المنتجة، وبالتالي المجتمع كله. وربما ذهب ماركس بعيداً في أحلامه، لكنه أبداً لم يكن شكلانياً، ولا جامداً، بل أشار إلى ضرورة إعادة النظر بأفكاره كلما أتى العلم بجديد، وحتى إنه لم يكن ماركسياً بمعنى لم يكن ليقدّس أفكاره، فالفكرة وليدة تعاطي الإنسان مع مفردات حياته عبر أنشطته المختلفة. ولم يكن ليعرف أن الأحزاب الشيوعية، وبسبب نزعاتٍ سياسيةٍ محضة، سوف تتمسك بالشكل دون المضمون.
وإذا كان الحزب الشيوعي السوري قد رفع شعار المنجل والمطرقة في ثلاثينيات القرن 
الماضي، يوم لم يكن بروليتاريا كالتي وصفها ماركس، فإن بعضهم اليوم يرفع الشعار نفسه في وقتٍ تبدلت فيه سمات الطبقة العاملة، إذ اشترطت النمو الذهني والخبرة التكنولوجية الرفيعة. ولعل هذا يتوفر أكثر في المؤهلين علمياً الذين يلعبون دوراً رئيساً في تطوير الإنتاج الأساس المكين للتنمية الاجتماعية، وقد لا يكون الرمز خلافاً، إذا كانت البرامج والمواقف مستمدّة من الواقع.. ولكن ما يدفع إلى التساؤل اليوم هو مواقف الأحزاب الشيوعية التقليدية في مواجهة الربيع العربي، فلماذا، وعلى أي أساس، افترضت أن الربيع مؤامرة؟ ومتى كانت الحرية والديمقراطية مؤامرة؟ وما المعيار الطبقي أو الاجتماعي الذي رسمت بموجبه موقفها؟! ولماذا لم تأخذ الموقف الجريء ضد إسالة الجيش العربي السوري (الباسل) لدم شباب سورية المحتجين السلميين، إذ راح، منذ الأيام الأولى، يحصدهم مرتكباً أبشع المجازر بحق مواطنيه..؟ أتراها الأحزاب الشيوعية، لو كانت رحبت، أما كانت أكثر انسجاماً مع ما تختزنه في ذاكرتها من مُثُل عن الثورة والثوار وعن الإرث الماركسي عموماً؟ ولنفترض أن المحتجين متدينون.. فهل وقف ماركس موقف العداء من هؤلاء، أم موقف العطف عليهم كأناس مخدوعين ومضللين بفقرهم وأمانيهم وإبعادهم عن معاركهم ضد مستغليهم؟ ثم ألم يحلل الحزب الشيوعي، في أدبياته ومنذ أواسط الثمانينيات، التناقض الرئيس في سورية الذي وجده قائماً بين البرجوازيتين، الطفيلية والبيروقراطية من جهة وعموم الشعب السوري والدولة من جهة أخرى.. أم لأن التناقض الرئيسي أصبح قبيل الانفجار في العام 2011 بين الشعب السوري الذي يعاني الفقر والتخلف ونتائج الفساد من جهة والبرجوازيتين اللتين اندمجتا في كيان واحد، يقوده النظام الذي لم يتورَّع عن الاستعانة بالنازيين الجدد، حفاظاً على بقائه. وإذا كان الثمن تدمير سورية بالكامل، والتعاطي مع الإرهاب ممثلاً بـ"داعش"، وعبر بعض هؤلاء الطفيليين المندمجين بالذات، في الوقت التي صمتت فيه تلك النخب السياسية المتهرئة، ومن بينها حملة المنجل والمطرقة!
1D1ED1EA-2F95-436E-9B0D-9EA13686FACD
محمود الوهب

كاتب وصحفي وقاص سوري، له عدد من المؤلفات والمجموعات القصصية