03 اغسطس 2022
الإنترنت زعيم جيل اليوم
القيادة أو الزعامة هي من طبيعة توق البشر إلى البحث عمن يقودهم أو من يتزعمهم أو من يتمثلوا به، وعن عقائد وأيدولوجيات تقدم لهم بعضا من المبادئ واليقينيات التي تعبّد لهم الطريق في السياسة والفكر والمعتقد والسلوك والحياة اليومية منذ بدء التاريخ. وقد تميّز القرن الماضي، منذ بداياته وحتى نهاية الثمانينيات، بصعود الأيديولوجيات الاشتراكية والشيوعية والليبرالية والتحرّرية والثورية، وقياداتها ومفكريها تحولوا إلى زعماء "تاريخيين" وأيقونات، من ماركس ولينين إلى غيفارا. أحزاب وحركات وتيارات ناضل من أجلها، وفي صفوفها، ملايين من الفئات الاجتماعية والطبقات الشعبية، خصوصا الشباب في العالم، من أجل أن يحقق كل منهم ذاته وحلمه في الحياة! أما المنطقة العربية تحديدا، فقد شهدت صعود الفكر القومي العربي ردّا على استعمار السلطنة العثمانية من أجل التحرّر والاستقلال، فنشأت في الأربعينيات أحزاب وحركات قومية، ازدهرت في الخمسينيات، بدءا بحزب البعث (1947) بزعامة ميشال عفلق، تلته حركة القوميين العرب (1950) التي أسسها جورج حبش، ويعبّر اسمها عن فكرها ونهجها، ثم جاء إلى الحكم في مصر جمال عبد الناصر (1952) الذي تحوّل إلى زعيم عربي من دون منازع من المحيط إلى الخليج، وأسس لما باتت تعرف "الناصرية". وكانت كلها حركات وأحزاب تدعو إلى الوحدة العربية، مدّت جذورها في الدول العربية كافة، وجذبت بشعاراتها وجنّدت مئات الآلاف من العرب. قابلتها الأحزاب الشيوعية التي نشأ معظمها في العشرينيات قبل الأحزاب القومية، رافعة شعاراتها الأممية من أجل التحرّر الوطني والاجتماعي، ومدّت جذورها، هي الأخرى، في معظم الدول العربية، وكان من أهم وجوهها وقيادييها السوري خالد بكداش،
أما الجذب الأكبر والأهم عربيا فقد سجلته الثورة الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات الذي سطع نجمه وامتدت زعامته أكثر من ثلاثة عقود. وقد تحوّل عرفات وعبد الناصر إلى أهم زعيمين عربيين طبعا القرن العشرين، غير أن عرفات أصبح رمزا نضاليا عربيا وعالميا، لما كان يمثّله من قضية شعبٍ يكافح من أجل حقه في استعادة أرضه ووطنه، فكان الاستقطاب والدعم الذي حظيت به القضية الفلسطينية أن وصل إلى حد انخراط عربٍ كثيرين في الثورة، وتطوّع شبابٌ وناشطون أوروبيون عديدون في صفوفها، وصدرت كتب، وأعدّت دراسات وأبحاث عن القضية وعدالتها، وعقدت ندواتٌ ومؤتمراتٌ دولية، وأقيمت نشاطاتٌ ومهرجانات تضامن في مختلف أنحاء العالم، إلى درجة أن فلسطين أضحت باستمرار موضوع الساعة في المحافل العربية والدولية نحو نصف قرن. كانت الزعامات إذاً والأيديولوجيات تشغل شريحة واسعة من الناس، خصوصا الشباب، وتعطي معنى لحياتهم ولاهتماماتهم، بغضّ النظر عن مدى صحة هذه الأيديولوجيا أو تلك، أو كاريزماتية هذا الزعيم أو ذاك. كان جيل القرن العشرين جيل الطموح نحو التغيير، جيل التمرّد، وجيل الثورة. وأيضا جيل الكتاب والإنتاج الفكري والثقافي والأدبي، وكان أيضا جيلا اجتماعيا منفتحا خرج من بيئته، إلى أن سقط جدار برلين وانهار الاتحاد السوفييتي في بداية التسعينيات، وتباعا منظومة الدول الاشتراكية. وعربياً، ربما يمكن القول إن انهيار الأنظمة القومية العروبية ("البعث" تحديدا) بدأ مع اجتياح الرئيس العراقي الراحل صدام حسين الكويت في الفترة نفسها (1990).
وللمفارقة، تزامن التطور التكنولوجي الذي شرع أمام البشرية أبواب المعرفة اللامتناهية عبر شبكة الإنترنت مع سقوط الأنظمة وأيديولوجياتها في الغرب وفي الشرق، ما أحدث ثورةً جذرية في عالم الاتصال والتواصل، ودفع إلى الاستغناء عن كل الوسائل والوسائط، والتحرّر من كل الأوصياء، في السلطة أم في المجتمع، وإلى تخطّي كل الحواجز الحقيقية والمصطنعة، السياسية والاقتصادية والتجارية، والتاريخية والجغرافية، والمعرفية والعلمية والطبية. وأضاف بشكل خاص الجانب المسلي، وأشياء كثيرة أخرى، عظيمةً وأقل أهمية وعادية، وحتى السخيفة والتافهة منها. الإنترنت صغّر العالم، حوّله، بمعنى ما، إلى قرية واحدة. والأهم أنه كسر هيبة السلطة ووهج الأيديولوجيا، وعطّل وسائلها الترغيبية والرادعة على السواء. الإنترنت شرع أبواب كل شيء أمام الجميع، خصوصا أمام الشباب، فأصبح لكل واحد منهم عالمه الخاص، حوّل العام إلى خاص، والخاص إلى عام، وأصبح كل شاب سيد نفسه، لا يقبل رأيا أو نصيحةً من أحد، فكيف إذا كان قرارا من زعيم أو قائدٍ بات يراه بعيدا وغريبا عن عالمه، فهو غير معني بما يجري في "الخارج التقليدي"، وهو غالبا لا يهتم بما يحصل أو يعتمل في داخل المجتمع أو حتى في
يعيش الشاب اليوم نهاره، وحتى ليله، وحيدا مسمّرا أمام الإنترنت، يقلب صفحاته ويبحر في عبابه، وينهل من غزارة معلوماته، ولو بدون القدرة على التمييز بين الصالح أو الدقيق والعشوائي منها. يغرق في عالمه الإنترنتي، وينسى حتى والديه معه في المنزل. وإذا احتاج شيئا ما فيطلبه عبر وسيلة التواصل "واتساب" من والده أو من والدته الموجودين في الغرفة الأخرى! أما الكتاب، عماد الثقافة بدون منازع، فقد أصبح في خبر كان، إذ لا طاقة للمدمن على الإنترنت أن يصبر على القراءة في كتابٍ عدة أيام. أصبحت ثقافته على شاكلة "الفاست فود" جاهزة ومعلبة، من صنع يديه وعلى مزاجه. الإنترنت أسقط كل المفاهيم والمبادئ والمعادلات التي سبقته، وحطّم المقامات والزعامات، وخلخل العلاقات الاجتماعية والإنسانية. بطح الإنترنت أرضا ماركس ولينين وغيفارا وصانعي ثورات القرن العشرين. وعربياً بطح أيضا جمال عبد الناصر وياسر عرفات وجورج حبش وكمال جنبلاط و... وأصبح الزعيم الأوحد بلا منازع.