الإمام الأكبر ... رجوع الشيخ إلى صباه

23 مايو 2014

أحمد الطيب في أكتوبر 2009 (أ.ف.ب)

+ الخط -

مرّت على الأزهر عقود طويلة من التراخي والسّبات، واتباع بوصلة الحكام الذين حرصوا على تغييب دور الأزهر وعلمائه، بالعصا حيناً، وبالجزرة أحياناً، في نهج ثابت، ورثوه منذ عهد المحتل الفرنسي، نابليون بونابرت، وهو نهج الاحتواء والسيطرة، وهذا ما فعله محمد علي وخلفاؤه في عهد الملكية مع الأزهر الشريف، ليسير على الدرب نفسه، وإن بصورة أقسى وأشمل، أصحاب الفخامة في عصر الجمهورية. ذلك النهج تلخصه، مبكراً، كلمة الخديوي عباس حلمي التي قال فيها محدداً دور الأزهر: "أول شيء أطلبه، أنا وحكومتي، أن يكون الهدوء سائداً في الأزهر، والشغب بعيداً عنه، فلا يشتغل علماؤه وطلبته إلا بتلقي العلوم الدينية النافعة، البعيدة عن شغب الأفكار، ومن يحاول بثّ الشغب بالأقوال، أو بواسطة الجرائد والأخذ والردّ فيها، فيكون بعيداً عن الأزهر".
ويعد شيخ الأزهر الحالي، الشيخ الدكتور أحمد الطيب، أحدث الملتزمين بهذا النهج، أو أبرزهم، وقد تجدد الجدل أخيراً بشأن موقفه من ثورة 25 يناير في مصر، وسائر ثورات الربيع العربي، ففي أول ظهور تلفزيوني له منذ انقلاب 3 يوليو الذي كان أحد شهوده وصناعه، قال لفضائية الحياة: "هناك خطة لتقسيم العالم العربي عن طريق ثورات الربيع العربي، في محاولة لإعادة الاستعمار الغربي من جديد".
ومبعث الجدل المصحوب بالدهشة أن هذه التصريحات الجديدة تتناقض كلياً مع موقفه (بعد) نجاح ثورة يناير، ما يبدو جلياً فيما نقلته عنه صحيفة الأهرام (6 إبريل/نيسان 2011)، حيث أكد الطيب دعم الأزهر ثورة 25 يناير، وأن الأزهر أول من ساند هذه الثورة، ودعا شبابها للتحاور مع علمائه، وذلك في كلمته في افتتاح ندوة "عالمية الأزهر وثورة 25 يناير"، والتي نظمتها الرابطة العالمية لخريجي الأزهر، وكانت بحضور قرينه في تأييد الانقلاب، مفتي الجمهورية في حينه، الدكتور علي جمعة.
وفي استقباله، في مشيخة الأزهر، وفداً من شباب الثورة برئاسة وائل غنيم، ونقلاً عن صحيفة الأهرام أيضاً (16 كانون ثاني/يناير 2012)، أعاد الطيب "التأكيد على موقف الأزهر الداعم لثورة 25 يناير، وأن التاريخ سيكتب للشباب والثوار أنهم أنقذوا مصر، في وقت لم تعد تتحمل فيه الظلم والتهميش مدة تزيد على 60 عاماً من التشويه والعبث بأبنائها".


ولكن، بإلقاء نظرة فاحصة متأنية على تاريخ الرجل، تزول الدهشة، ويهدأ الجدل، لأن موقفه الذي أبداه أخيراً هو الأصل في تكوينه وتوجهاته، فهو بمثابة "رجوع الشيخ إلى صباه"، وينسجم مع مواقفه وتصريحاته طوال مراحل حياته. مع اندلاع أول أيام الثورة، كان الموقف الأزهري الرسمي التأييد الكامل لـ "القيادة الرشيدة الحكيمة للرئيس مبارك والقيادات الأمنية"، بل إن صحيفة "صوت الأزهر"، الناطق الإعلامي الرسمي للأزهر، وفي تحدٍّ سافر لمشاعر الجماهير الثائرة على نظام مستبد فاسد، نشرت في 28 يناير، والثورة في ذروتها، تهنئةً إلى قاتل الثوار وزير الداخلية، اللواء حبيب العادلي، مصحوبة بصورة له شغلت حيزاً كبيراً من الصفحة، بمناسبة عيد الشرطة"، وهو اليوم الذي ثار الشعب فيه ضدها!
ومنذ 11 فبراير/شباط 2011، اضطر الإمام الأكبر إلى مسايرة الأجواء الثورية في البلاد، وبادر إلى إعلان وثائق باسم الأزهر، حيث أعلن في 31 / 10 /2011 "وثيقة إرادة الشعوب العربية"، وتضمنت ستة مبادئ "ثورية"، اعتبرت من الحق الأصيل للشعوب في الاحتجاج السلمي، ونفي صفة "البغي" عن المتظاهرين ضد ظلم النظام الحاكم، سبقتها وثيقة "مستقبل مصر" في 19/ 6/ 2011، وتبعتها وثيقة "منظومة الحريات الأساسية" في 8/ 1/ 2012، وركزتا على الشأن الثوري المصري. ومثلت الوثائق الثلاث تحولاً عميقاً، تأكد بما لا يدع مجالاً للشك بأنه كان "اضطرارياً" في ضوء المواقف السابقة واللاحقة للدكتور أحمد الطيب، فقد ظن بعضهم، وبعض الظن إثم، أن لدى الرجل رغبة حقيقية في استرداد عافية مؤسسة الأزهر واستقلالها.
ومنذ الانقلاب العسكري في 3 يوليو/تموز 2013 على الرئيس الشرعي المنتخب، محمد مرسي، وشارك فيه شيخ الأزهر إلى جوار بابا الأقباط الأنبا تواضروس، توقف الطيب عن إصدار الوثائق "الثورية"، و"لحس" كل تصريحاته المنادية بالديمقراطية وحق الجماهير في التظاهر، تلك التصريحات العنترية الزائفة، اللاحقة على 11 فبراير/شباط 2011، والسابقة على 3 يوليو، وعاد الرجل إلى سيرته الأولى في عهد مبارك، معتبراً التظاهر ضد ممارسات الانقلاب العسكري وانتهاكاته، من قتل وسفك لدماء الآلاف، واعتقال عشرات الآلاف، خروجاً على الحاكم الشرعي!
ولا شك أن هذا الرجل بتحولاته وتناقضاته، وأن المؤسسة الدينية التي يرأسها، ليست هي ما نظم فيها أمير الشعراء أحمد شوقي عام 1924 قصيدة فريدة، ولله الأمر من قبل ومن بعد، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.

 


 

دلالات