اليمين متشدد واليسار متساهل
لم تكن نتائج الاستفتاء مفاجئة، خصوصاً أنّ احتدام الصراع بين اليمين واليسار في فرنسا حول مشكلة الهجرة واللجوء بلغ ذروته، في الأيام الأخيرة، خصوصاً بعد الحملة التي أطلقها مناضلو الجبهة الوطنية التي ترأسها، مارين لوبان، ضد اللاجئين سعياً منهم لتقليب الرأي العام على التمسك بالشعور الوطني لا التوجّه نحو تحويل فرنسا إلى "مخيم للاجئين".
الحملة التي حملت اسم "أنا فرنسي، لا أريد مهاجراً" (Je suis un Français je veux pas un émigrant) جاءت في الوقت الذي عبّرت فيه حكومات اشتراكية في أوروبا عن رغبتها في استقبال آلاف النازحين. ومما لا شك فيه فإنّ الورقة التي يلعبها مناصرو لوبان في موضوع الهجوة قد تكون رابحة بحسب اعتقاد كثيرين قبل حلول موعد الانتخابات الرئاسية ربيع/صيف 2017. بالعودة إلى الاستفتاء علّقت صحيفة "ليبراسيون" على النتائج "اليسار إنساني واليمين فاشي" وأضافت، أن "الخضر والاشتراكيين واليسار المتشدد في أكثر من ثلثي مناصريهم مع استقبال اللاجئين، على الضفة الأخرى 91% من أنصار لوبان يعارضون قطعاً الفكرة، وحوالي 68% من أنصار ساركوزي كذلك الأمر".
عداء لا مثيل له
لم تتوقف الدراما الفرنسية طيلة الصيف، ولم يتوان جزء كبير من النخب (كتاب وصحافيون وأصحاب رأي) عن التعبير عن انزعاجهم من توافد اللاجئين إلى فرنسا. لكنّ الأمر وإن كان مستغرباً، لجهة الاحتقان الكبير الذي تولّده ماكينة إعلامية زينوفوبية، لا يبدو معادلاً أبداً للأزمات الإنسانية السابقة التي احتضنت فيها فرنسا المهاجرين.
في شهر أيار/مايو الماضي، نشرت "لوموند" مقالاً عنونته "فرنسا 2015 غير فرنسا 1979" في إشارة إلى حادثة Boat people حين استقبلت فرنسا ما يزيد عن 120 ألف فيتنامي هارب بحراً من الحكم الشيوعي، وختم كاتب المقال "سنة 1990 آلاف الفارين من إقليم كوسوفو كان مرحباً بهم هنا، لماذا لا تريد فرنسا استقبال لاجئين سوريين بأعداد كبيرة؟"
اقتصاد ضعيف ومسافات ثقافية وصراع أجيال
في مقابلة أجرتها معه "لو فيغارو" علّق جيروم فوركيه، مدير مركز Ifop للإحصاء، على الاستفتاء الأخير "تعاني فرنسا من اقتصاد مترهّل في الآونة الأخيرة، نسبة البطالة مرتفعة وأصلاً مشكلة الهجرة موجودة منذ عشرات السنين ومقارنة بالاقتصاد الألماني فإنّ الظروف السوسيولوجية والديمغرافية وتمكّن الاقتصاد الألماني من مواجهة كل الأزمات التي مرّت بنا تجعل الألمانيين قادرين على استقبال اليد العاملة.
في المسألة الثقافية تبدو الأكثرية الفرنسية مرحبة باستقبال اللاجئين المسيحيين، وترى أنّ هؤلاء قادرون على الاندماج في المجتمع الفرنسي بشكل أكبر من الأكثرية المسلمة. حقيقة يرفضها فوركيه ويقول "المسيحي ابن البيئة الشرقية لا يختلف كثيراً عن المسلم ابن البيئة نفسها، لكن الخوف الذي زرعه التطرف الإسلامي واستغلاله يمينياً على أحسن وجه جعل الفرنسيين حذرين ومتخوفين من اللاجئ المسلم أكثر من المسيحي".
على أنّ قسماً كبيراً من الرأي العام الفرنسي لا يجيد، حتى اليوم، التمييز بين المهاجرين الذين اضطروا إلى الهرب من بلادهم لأسباب اقتصادية واللاجئين الذين فروا لأسباب سياسية. الخلط بين المهاجر الأفريقي القادم من "أفريقيا السوداء" (Afrique subsaharienne) والمهندس السوري اللاجئ لأنه مهدد بالسجن أو القتل، وحّد النفور الفرنسي من القادمين بحراً على أساس هوياتي يجعل الركون إلى صفة "لاجئ" أو "مهاجر" مطابقاً لمفهوم الرعب الذي يريده فرنسيون كثر مقياساً لتشظي الدولة سياسياً واقتصادياً وتحطيماً لمبادئ الجمهورية الخامسة.
أما عن فجوة الأجيال التي يصنعها اللجوء، اليوم، يعبّر عنها الفارق الكبير بين الفئات العمرية الشابة تحديداً تلك التي بين 35 و49، التي ترفض بنسبة 71% استقبال لاجئين في فرنسا والفئات المتقدمة في السن (فوق الـ 56 عاماً) التي عبّرت عن عدم انزعاجها لتوافد اللاجئين. ويعيد عدد من من الباحثين الأمر إلى أنّ الفئات المتقدمة في العمر والمتقاعدين ينعمون برفاهية تساعدهم على تقبّل الفكرة، إضافة إلى أنّ طابع الكثلكة والتديّن يغلبان على تلك الفئات، ما يعدّه كثيرون عاملاً إيجابياً في صف اللاجئين.