05 يونيو 2017
الإصلاح الاقتصادي البديل في الخليج
تسير إجراءات التقشّف في الخليج بشكل متسارع. في السعودية، تم الإعلان، أخيراً، عن مجموعة من قرارات خفض الأجور لموظفي الدولة، في مواجهة الأزمة الاقتصادية والعجز في الموازنة، وهذا جزء من الخطة الاقتصادية الجديدة، الرامية إلى خفض الإنفاق الحكومي. ركّزت خطط الإصلاح الاقتصادي في الخليج، منذ سنوات، على تقليص الإنفاق الحكومي وترشيده، ووقف الهدر المالي، وإتاحة فرصةٍ أكبر للقطاع الخاص، ليدير دفة الاقتصاد، لكن هذه الخطط لا تعيد بناء الهياكل الاقتصادية القائمة على أسسٍ جديدة، إذ إنها تركّز على تنويع مصادر الدخل، عبر البحث عن ريوعٍ جديدة غير نفطية، والاستثمار في قطاعاتٍ تدر أرباحاً سريعة، ولا تحقق تنميةً مستدامة، أو تعالج أصل مشكلة الاعتماد على الريع النفطي، المتصلة بتذبذب أسعاره وتقلباته، واحتمالية تراجع أهميته.
في محاولةٍ للتخفيف من شعور الناس بالمعاناة، نتيجة سياسات خفض الإنفاق الحكومي، يُقال إن هذه معاناة ضرورية لحصد نتائج إصلاحاتٍ جذريةٍ، لابد أن تترك، في البداية، آثاراً سلبية، من دون أن يُقال شيء عمّا يمكن عمله، للتخفيف من هذه الآثار، وطمأنة الناس. الأهم أن هذه ليست إصلاحاتٍ جذرية، إذ إنها لا تُعيد هيكلة الاقتصاد، وإنما تعمل على تنويع مصادر الريع، مع تطبيق سياسات خصخصةٍ قد تقود إلى توسيع الفوارق الطبقية، وانتشاء مجموعة محدّدة من "الهوامير"، بحسب التعبير الخليجي الدارج في وصف رجال الأعمال فاحشي الثراء، فيما يتضرّر المواطنون العاديون، وأصحاب المنشآت الصغيرة والمتوسطة.
ما يمكن تسميته إصلاحاً جذرياً، يجب أن يغيّر هياكل الاقتصاد القائم، بدايةً من عملية إصلاحٍ للقطاعين العام والخاص معاً. تَرَهَّلَ القطاع العام بفعل الثقافة الريعية المهيمنة عليه، وتشبَّع بالموظفين الذين يُعتبَر توظيفهم جزءاً من آليات توزيع الريع. وعليه، إصلاح القطاع العام مرتبط بالانتقال إلى حالةٍ إنتاجية، وتحفيز الموظفين للإنتاج، ضمن تخطيط استراتيجي، يقوم على تحويل أجهزة القطاع العام إلى أجهزةٍ منتجة، مع الالتزام بالشفافية والانضباط المالي والإداري.
القطاع الخاص أيضاً بحاجةٍ إلى إصلاح، وهو قطاعٌ يتركّز نشاطه في مجالاتٍ محدودة، ريعية الطابع، مثل المقاولات، والخدمات، والوكالات التجارية للمنتجات الأجنبية. ولا يعكس حالةً إنتاجية، ويعتمد على الأيدي العاملة الأجنبية الرخيصة، متدنيّة المهارة، ويغلب عليه الطابع الاحتكاري، وتَرَكُّز الثروة في يد شريحةٍ ضيقة، ويرتبط بالإنفاق الحكومي وتوزيع الريع، من خلال التعاقدات على مشاريع الدولة، أو الاعتماد على الطلب الناتج من الإنفاق الحكومي على
أجور المواطنين، على الرغم من أن التجار في الماضي (في مرحلة ما قبل النفط) كانوا أكثر استقلاليةً عن الدولة، حين كانت تستقطع منهم الضرائب من التجارة والزراعة والغوص لحصد اللؤلؤ، لكن استغناء الدولة عن هذه الضرائب في حقبة النفط أفرز الاتكال الحالي للقطاع الخاص على التدوير الحكومي للريع.
كل هذا بحاجةٍ إلى إصلاح، ينطلق من توجيه الدولة دعمها القطاع الخاص نحو التطوير الصناعي والتكنولوجي، ضمن خطةٍ تستهدف الخروج من الحالة الريعية، والاستثمار لتحصيل أرباحٍ سهلةٍ من دون كلفةٍ إنتاجية، إلى الاستثمار في التصنيع، وتوطين التكنولوجيا، وتطوير البحث العلمي، لتحقيق تنميةٍ مستقلةٍ ومستدامة، من خلال قيادة الدولة عملية التنمية، وإشراك القطاع الخاص في تنفيذ خطط الدولة، بالارتكاز إلى تنمية رأس المال البشري بالتعليم والتدريب، ما يساعد على إشراك المواطنين في عملية التنمية، وإيجاد فرص عمل جديدةٍ، والحد من البطالة، والتنويع الحقيقي للاقتصاد، وإيجاد صادراتٍ يمكنها أن تخفف من كلفة الاستيراد.
من الضروري، هنا، التركيز على الصناعات المتقدّمة تقنياً، ذات القيمة المضافة العالية، وحمايتها ودعمها من الدولة، ويمكن الاستفادة من التجارب الآسيوية في هذا الإطار، والتي بدأت بالتقليد، ووصلت إلى المنافسة العالمية. في الواقع، لن يرى القطاع الخاص في هذا مكسباً على المدى القصير، لكنه يكسب على المدى البعيد. يمرّ إصلاح القطاع الخاص بمحاربة الاحتكار، ودعم التنافسية وتكافؤ الفرص، للمساهمة في التنويع الاقتصادي. كذلك، لا يمكن تحقيق إصلاحٍ جذري من دون إعادة توزيع الدخل والثروة، بمكافحة الفساد والهدر المالي، وتقليص الفوارق الطبقية، والحدّ من تركّز الثروة في يد قلةٍ، لا لأسبابٍ مبدئية وحسب، بل لأسبابٍ اقتصاديةٍ أيضاً، تتعلق بضرورة تعزيز القوة الشرائية للطبقة الوسطى، القادرة على رفع معدلات الطلب والاستهلاك، وبالتالي، حماية الاقتصاد من الانكماش.
تتطلب إعادة توزيع الدخل آليات عديدة، من ضمنها استحداث نظام ضريبي، يفرض ضرائب تصاعدية على الدخل، ما يعني ضرائب أكبر على المداخيل والثروات الأكبر، بدلاً من فرض "ضرائب خفية"، في شكل رسومٍ على الخدمات والسلع الكمالية، لا تُمَايز بين المواطنين على أساس دخلهم وثرواتهم، لكن هذا النظام الضريبي يُلزم تطبيقُه بتغييرٍ في النظام السياسي.
هذه مبادئ عامة في تصوّر أي إصلاحٍ جذريٍّ وعميق للنظام الاقتصادي في الخليج، وهي تحتاج، بالفعل، إلى عملٍ جاد وتضحيات، تبدأ من مؤسسات الدولة والقطاع الخاص، وصولاً إلى المواطنين العاديين. الأساس في هذا الإصلاح هو إنهاء الحالة الريعية وقلة الإنتاجية، وإيجاد قاعدةٍ صناعيةٍ صلبة، بدلاً من تنويع مصادر الريع، واستمرار دولة الرفاه والرعاية الاجتماعية. ولكن، ضمن عملية تنميةٍ مستدامة.
في محاولةٍ للتخفيف من شعور الناس بالمعاناة، نتيجة سياسات خفض الإنفاق الحكومي، يُقال إن هذه معاناة ضرورية لحصد نتائج إصلاحاتٍ جذريةٍ، لابد أن تترك، في البداية، آثاراً سلبية، من دون أن يُقال شيء عمّا يمكن عمله، للتخفيف من هذه الآثار، وطمأنة الناس. الأهم أن هذه ليست إصلاحاتٍ جذرية، إذ إنها لا تُعيد هيكلة الاقتصاد، وإنما تعمل على تنويع مصادر الريع، مع تطبيق سياسات خصخصةٍ قد تقود إلى توسيع الفوارق الطبقية، وانتشاء مجموعة محدّدة من "الهوامير"، بحسب التعبير الخليجي الدارج في وصف رجال الأعمال فاحشي الثراء، فيما يتضرّر المواطنون العاديون، وأصحاب المنشآت الصغيرة والمتوسطة.
ما يمكن تسميته إصلاحاً جذرياً، يجب أن يغيّر هياكل الاقتصاد القائم، بدايةً من عملية إصلاحٍ للقطاعين العام والخاص معاً. تَرَهَّلَ القطاع العام بفعل الثقافة الريعية المهيمنة عليه، وتشبَّع بالموظفين الذين يُعتبَر توظيفهم جزءاً من آليات توزيع الريع. وعليه، إصلاح القطاع العام مرتبط بالانتقال إلى حالةٍ إنتاجية، وتحفيز الموظفين للإنتاج، ضمن تخطيط استراتيجي، يقوم على تحويل أجهزة القطاع العام إلى أجهزةٍ منتجة، مع الالتزام بالشفافية والانضباط المالي والإداري.
القطاع الخاص أيضاً بحاجةٍ إلى إصلاح، وهو قطاعٌ يتركّز نشاطه في مجالاتٍ محدودة، ريعية الطابع، مثل المقاولات، والخدمات، والوكالات التجارية للمنتجات الأجنبية. ولا يعكس حالةً إنتاجية، ويعتمد على الأيدي العاملة الأجنبية الرخيصة، متدنيّة المهارة، ويغلب عليه الطابع الاحتكاري، وتَرَكُّز الثروة في يد شريحةٍ ضيقة، ويرتبط بالإنفاق الحكومي وتوزيع الريع، من خلال التعاقدات على مشاريع الدولة، أو الاعتماد على الطلب الناتج من الإنفاق الحكومي على
كل هذا بحاجةٍ إلى إصلاح، ينطلق من توجيه الدولة دعمها القطاع الخاص نحو التطوير الصناعي والتكنولوجي، ضمن خطةٍ تستهدف الخروج من الحالة الريعية، والاستثمار لتحصيل أرباحٍ سهلةٍ من دون كلفةٍ إنتاجية، إلى الاستثمار في التصنيع، وتوطين التكنولوجيا، وتطوير البحث العلمي، لتحقيق تنميةٍ مستقلةٍ ومستدامة، من خلال قيادة الدولة عملية التنمية، وإشراك القطاع الخاص في تنفيذ خطط الدولة، بالارتكاز إلى تنمية رأس المال البشري بالتعليم والتدريب، ما يساعد على إشراك المواطنين في عملية التنمية، وإيجاد فرص عمل جديدةٍ، والحد من البطالة، والتنويع الحقيقي للاقتصاد، وإيجاد صادراتٍ يمكنها أن تخفف من كلفة الاستيراد.
من الضروري، هنا، التركيز على الصناعات المتقدّمة تقنياً، ذات القيمة المضافة العالية، وحمايتها ودعمها من الدولة، ويمكن الاستفادة من التجارب الآسيوية في هذا الإطار، والتي بدأت بالتقليد، ووصلت إلى المنافسة العالمية. في الواقع، لن يرى القطاع الخاص في هذا مكسباً على المدى القصير، لكنه يكسب على المدى البعيد. يمرّ إصلاح القطاع الخاص بمحاربة الاحتكار، ودعم التنافسية وتكافؤ الفرص، للمساهمة في التنويع الاقتصادي. كذلك، لا يمكن تحقيق إصلاحٍ جذري من دون إعادة توزيع الدخل والثروة، بمكافحة الفساد والهدر المالي، وتقليص الفوارق الطبقية، والحدّ من تركّز الثروة في يد قلةٍ، لا لأسبابٍ مبدئية وحسب، بل لأسبابٍ اقتصاديةٍ أيضاً، تتعلق بضرورة تعزيز القوة الشرائية للطبقة الوسطى، القادرة على رفع معدلات الطلب والاستهلاك، وبالتالي، حماية الاقتصاد من الانكماش.
تتطلب إعادة توزيع الدخل آليات عديدة، من ضمنها استحداث نظام ضريبي، يفرض ضرائب تصاعدية على الدخل، ما يعني ضرائب أكبر على المداخيل والثروات الأكبر، بدلاً من فرض "ضرائب خفية"، في شكل رسومٍ على الخدمات والسلع الكمالية، لا تُمَايز بين المواطنين على أساس دخلهم وثرواتهم، لكن هذا النظام الضريبي يُلزم تطبيقُه بتغييرٍ في النظام السياسي.
هذه مبادئ عامة في تصوّر أي إصلاحٍ جذريٍّ وعميق للنظام الاقتصادي في الخليج، وهي تحتاج، بالفعل، إلى عملٍ جاد وتضحيات، تبدأ من مؤسسات الدولة والقطاع الخاص، وصولاً إلى المواطنين العاديين. الأساس في هذا الإصلاح هو إنهاء الحالة الريعية وقلة الإنتاجية، وإيجاد قاعدةٍ صناعيةٍ صلبة، بدلاً من تنويع مصادر الريع، واستمرار دولة الرفاه والرعاية الاجتماعية. ولكن، ضمن عملية تنميةٍ مستدامة.