اعتدنا على كتابات الكثير من الباحثين الإسلاميين واليساريين في تناولهم للمعرفة السياسية المنتجة في الغرب عموماً وفي الولايات المتحدة، خصوصاً ضمن براديغم سأسميه "براديغم الأجندة". أي أن ليس هناك من كاتب غربي يكتب عن المنطقة العربية أو عن الإسلام والإسلاميين إلا ويبدأ النقاش وينتهي بأن هناك أجندة محكمة لمتخذ القرار السياسي والأمني الغربي للسيطرة على المنطقة وتوجيه تشكل النخب فيها، بحيث يصبح الحقل البحثي الذي ينتجه الباحثون ليس إلا ترويجاً لهذه الأجندة. بمعنى آخر، هناك إسقاط لغياب الاستقلالية النسبية للحقل الأكاديمي في العالم العربي على الحقل الأكاديمي في الغرب، وهذا ما يغذي نظرية المؤامرة.
خلافاً لذلك، يؤسس كتاب بلال التليدي "الإسلاميون ومراكز البحث الأمريكية: دراسة النموذج المعرفي" لبراديغم جديد في التعامل مع المعرفة السياسية المنتجة في الغرب.
ينبني الكتاب على منهجية محكمة من تحليل مضمون بين عامي 2002 حتى 2012 لأدبيات مؤسستين مهمتين: معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى، ومعهد كارينجي للسلام الدولي، ولتقارير أنتجوها حول توصيف ظاهرة الإسلاميين في العالم العربي (مشاركتهم السياسية، موقف الأنظمة الديكتاتورية العربية من احتوائهم أو إقصائهم، موقفهم من العلمانية والديمقراطية). تنتهي هذه الأدبيات باستشراف المستقبل وتقديم توصيات وتقديرات يعتمد عليها صناع القرار السياسي والأمني في تحديد استراتيجيات التدخل. وهنا يؤكد المؤلف أن هذه الأدبيات مفيدة لمن يقرأها ليس لأنها صورة عن الاستراتيجيات الدولية والتوجهات الكبرى، بل لأنها مبنية غالباً على جهد بحثي جدير بالقراءة.
يظهر الكتاب تباينات مهمة في النظر إلى الإسلاميين، فبينما يراهم معهد واشنطن على أنهم خطر على الديمقراطية، تعامل معهد كارينجي معهم على أنهم خليط من مجموعات مختلفة، حيث انخرط بعضهم بإخلاص فكرا وسلوكا في عملية الانتقال إلى الديمقراطية. ولكن يبقى، حسب هذا المعهد، لدى الكثير من الإسلاميين مناطق رمادية في فكرهم وسلوكهم، كموقفهم من بعض قضايا المواطنة ومساواة المرأة مع الرجل.
على الرغم من إظهارنا لهذه التباينات يخلص التليدي إلى أن هناك أزمة النموذج المعرفي الذي اعتمد على القياس: قياس الأنظمة السلطوية بالأنظمة الديمقراطية، قياس الأحزاب الإسلامية بالأحزاب الديمقراطية الغربية أو بالأحزاب المسيحية الديمقراطية، وأخيرا قياس العملية الديمقراطية العربية بالغربية. إلا أن هذا النموذج لا يحلل كفاية ما يسميه الكاتب "الدور المركزي للفاعل الأجنبي".
قد أتفق مع بعض النقد الذي يوجهه الكاتب إلى أدبيات هذه المراكز، كونها مثلا لم تأخذ بعين الاعتبار التطور الفكري لدى المجموعات الإسلامية وتنوع مدارسهم الفكرية من ظاهريين ومقاصديين وعرفانيين. ولكن ما يسميه التليدي بالقياس ليس إلا منهجاً أصيلاً من مناهج العلوم السياسية وهو المقارنة. ولا يمكننا أن نمنع أنفسنا من التعلم من التاريخ والجغرافيا والتخلي عن عطب ما أسميه "أسطورة التوحد"؛ أي أننا مختلفون عن الآخرين بسبب ثقافتنا العربية-الإسلامية. فهو ينتقد كيف يقرأ ناثان براون، الباحث في كارينجي، في صيرورة الإسلاميين المعتدلين، وخاصة الإخوان المسلمين، على أنها ستكون مثيلة بتلك التي تتعلق بالأحزاب المسيحية الديمقراطية حيث ساهم انخراطهم في الفضاء السياسي بعلمنتها. ويبرر ذلك بأن الأحزاب الإسلامية لها "بيئة سياسية يحكمها نسق ثقافي مجتمعي،... يتقاسمها القناعة حول الاشتباك بين الديني والسياسي، ويهمشها ويعزل المكونات العلمانية، وتحاصرها قواعد اللعبة التي رسم حدودها النظام شبه السلطوي".
ولكن لماذا لا نستفيد من دروس حصلت في تاريخ أوروبا في عصر العولمة والتأثير المباشر للغرب على دول العالم الثالث؟ فالمقارنة لا تعني إبراز أوجه الشبه وحسب بل يمكن بالمقارنة البحث عن الاختلاف وتفسير ذلك. المقارنة شرط علمية البحث في السياسة والاجتماع، والتي استخدمها الكثير ومنهم ماكس فيبر وإميل دركهايم، وهي تحررنا من رعونة التفسيرات الثقافوية التي تبحث عن الخصوصية فقط، والتي راجت وما زالت في كثير من الخطابات الإسلامية واليسارية الأيديولوجية.
(أستاذ علم الاجتماع، الجامعة الأميركية في بيروت)
خلافاً لذلك، يؤسس كتاب بلال التليدي "الإسلاميون ومراكز البحث الأمريكية: دراسة النموذج المعرفي" لبراديغم جديد في التعامل مع المعرفة السياسية المنتجة في الغرب.
ينبني الكتاب على منهجية محكمة من تحليل مضمون بين عامي 2002 حتى 2012 لأدبيات مؤسستين مهمتين: معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى، ومعهد كارينجي للسلام الدولي، ولتقارير أنتجوها حول توصيف ظاهرة الإسلاميين في العالم العربي (مشاركتهم السياسية، موقف الأنظمة الديكتاتورية العربية من احتوائهم أو إقصائهم، موقفهم من العلمانية والديمقراطية). تنتهي هذه الأدبيات باستشراف المستقبل وتقديم توصيات وتقديرات يعتمد عليها صناع القرار السياسي والأمني في تحديد استراتيجيات التدخل. وهنا يؤكد المؤلف أن هذه الأدبيات مفيدة لمن يقرأها ليس لأنها صورة عن الاستراتيجيات الدولية والتوجهات الكبرى، بل لأنها مبنية غالباً على جهد بحثي جدير بالقراءة.
يظهر الكتاب تباينات مهمة في النظر إلى الإسلاميين، فبينما يراهم معهد واشنطن على أنهم خطر على الديمقراطية، تعامل معهد كارينجي معهم على أنهم خليط من مجموعات مختلفة، حيث انخرط بعضهم بإخلاص فكرا وسلوكا في عملية الانتقال إلى الديمقراطية. ولكن يبقى، حسب هذا المعهد، لدى الكثير من الإسلاميين مناطق رمادية في فكرهم وسلوكهم، كموقفهم من بعض قضايا المواطنة ومساواة المرأة مع الرجل.
على الرغم من إظهارنا لهذه التباينات يخلص التليدي إلى أن هناك أزمة النموذج المعرفي الذي اعتمد على القياس: قياس الأنظمة السلطوية بالأنظمة الديمقراطية، قياس الأحزاب الإسلامية بالأحزاب الديمقراطية الغربية أو بالأحزاب المسيحية الديمقراطية، وأخيرا قياس العملية الديمقراطية العربية بالغربية. إلا أن هذا النموذج لا يحلل كفاية ما يسميه الكاتب "الدور المركزي للفاعل الأجنبي".
قد أتفق مع بعض النقد الذي يوجهه الكاتب إلى أدبيات هذه المراكز، كونها مثلا لم تأخذ بعين الاعتبار التطور الفكري لدى المجموعات الإسلامية وتنوع مدارسهم الفكرية من ظاهريين ومقاصديين وعرفانيين. ولكن ما يسميه التليدي بالقياس ليس إلا منهجاً أصيلاً من مناهج العلوم السياسية وهو المقارنة. ولا يمكننا أن نمنع أنفسنا من التعلم من التاريخ والجغرافيا والتخلي عن عطب ما أسميه "أسطورة التوحد"؛ أي أننا مختلفون عن الآخرين بسبب ثقافتنا العربية-الإسلامية. فهو ينتقد كيف يقرأ ناثان براون، الباحث في كارينجي، في صيرورة الإسلاميين المعتدلين، وخاصة الإخوان المسلمين، على أنها ستكون مثيلة بتلك التي تتعلق بالأحزاب المسيحية الديمقراطية حيث ساهم انخراطهم في الفضاء السياسي بعلمنتها. ويبرر ذلك بأن الأحزاب الإسلامية لها "بيئة سياسية يحكمها نسق ثقافي مجتمعي،... يتقاسمها القناعة حول الاشتباك بين الديني والسياسي، ويهمشها ويعزل المكونات العلمانية، وتحاصرها قواعد اللعبة التي رسم حدودها النظام شبه السلطوي".
ولكن لماذا لا نستفيد من دروس حصلت في تاريخ أوروبا في عصر العولمة والتأثير المباشر للغرب على دول العالم الثالث؟ فالمقارنة لا تعني إبراز أوجه الشبه وحسب بل يمكن بالمقارنة البحث عن الاختلاف وتفسير ذلك. المقارنة شرط علمية البحث في السياسة والاجتماع، والتي استخدمها الكثير ومنهم ماكس فيبر وإميل دركهايم، وهي تحررنا من رعونة التفسيرات الثقافوية التي تبحث عن الخصوصية فقط، والتي راجت وما زالت في كثير من الخطابات الإسلامية واليسارية الأيديولوجية.
(أستاذ علم الاجتماع، الجامعة الأميركية في بيروت)