الإسلاميون الجزائريون وأزمة غرداية.. صمت غير مشروع

04 سبتمبر 2014

تشييع ضحايا العنف في غرداية (17 مارس/2014/أ.ف.ب)

+ الخط -

يكاد المتابعون لما يجري من أحداث دامية في غرداية في الجزائر، بين السكان الأمازيغ الأباضيين والعرب المالكيين، يجمعون على أن ذلك كشف، بحق، عن هشاشة كبرى في القواعد التحتية التي يقوم عليها الوعي الوطني في الجزائر، بضرورة الاعتراف بالتنوع الداخلي، والاعتياد عليه عنصراً من عناصر العيش المشترك. ويعزو هؤلاء سبب ذلك إلى ضعف مستديم وملازم للخيال السياسي المتداعي عن احتكار السياسة من لدن الجهات الرسمية، إعلامياً وأمنياً، إلى درجة أن استحالت معه الأحزاب إلى مجرد "عوائل"، تزور كل موسم اقتراع شوارع السياسة، للتفرج على كرنفالات انتخابية، هي أشبه ما تكون بالمسخرة، ما تولّد عنه هذا العجز المهول في البت الواضح والصريح والتأسيس للموقف الصارم الصحيح، إزاء جملة من مسائل خطيرة، تتهدد اللحمة الوطنية، كما هو الشأن حالياً مع أزمة غرداية التي استعصت فهما على سياسيين عديدين، فضلا عن الآخرين من عموم الجزائريين.

مع فشل المشروع التنموي الوطني، تراجع وهج الخطاب التحرري الخمسيني، وتجردت الدولة تدريجياً من لبوس القداسة الثورية التي طالما تدثّرت بها، فصارت النزعات الجهوية تأخذ مداها في التأجج على صعيد الوطني، سعياً إلى تدارك حقٍّ ترى كل جهة من جهات الوطن أنه اغتصب منها بالقوة، مذ استولت جماعة وجدة على مقاليد الحكم سنة 1962، متجردة، وبشكل مستتر، من كل الالتزامات والمواثيق ومشاريع بناء الدولة الجزائرية الحرة التي تواطأت عليها جميع فصائل الحركة الوطنية. والمصيبة أن هاته الدولة التي لم تتطور في مسلكها السياسي والتسييري عملياً وخطابياً على مدار العقود الخمسة التي تلت الاستقلال، وهذا بسبب عاهة الشرعية الأزلية التي توشم مسارها، فقد ظهرت أعجز ما تكون عن إنتاج حلول لمصائب، تداعت عن أم المصائب كلها، وهي الانزلاق الكبير الذي أصاب، في صيف 1962، التعايش بين مختلف مكونات المجتمع الجزائري، المذهبية والألسنية والأيديولوجية، حيث بات خطاب مشروعها الوحدوي، الأحادي التلفيقي، غير قادر على التجدد والتمدد في زمنٍ، راحت فيه المفاهيم والهويات حتى، تتجدد في نسق دائب في السرعة، والغريب أن ترى ساسةً نبتوا كالأشواك في حدائق السلطة المتصحرة والناضبة في خيالها السياسي، وهم يبررون بتصاعد تلك المطالب الجهوية واللغوية والاجتماعية، بضياع هيبة الدولة، والهيبة تلك، في حسبانهم، عصا الجزرة وفرض الاجتماع القسري حول مشروعٍ بائد، لم يعد يحظى بإجماع أقل مكونات المجتمع.

وبشأن السلطة، نجده فادحاً عجزها في حلحلة أزمات داخلية، ظل رمادها مشتعلاً تحت رديم السنين، وإن تنفخ رياح التغيير، على كامل المستويات والصعد السياسية والتكنولوجية، فيها مجدداً. أما عن المعارضة، فتختار هذه المقالة موقف الإسلاميين من أزمة غرداية، ذات البعد المتقاطع المذهبي الألسني، والقريبة من مناطق النفط الرافد الأوحد لخزينة الدولة إن جاز الوصف. ويأتي هذا الاختيار على خلفية طرح هذا التيار بديلاً للسلطة، في مسألة إدارة الاختلاف اللغوي المذهبي، وتأكيد قادته المتواصل على أن ظاهرة الاختلاف وشرعية التنوع لا تمثل إشكالاً لها مطلقاً، وهذا وفق روح النص القرآني الذي يقر هذا الاختلاف ويشرعنه، بل ويحميه، مثلما تحفل به جل السرديات والمتون الفكرية النظرية التي يستند عليها التيار الإسلامي، في خطابه السياسي والثقافي والدعوي.

ومثل بقية التيارات السياسية الأخرى في الجزائر، ظل موقف الإسلاميين مما يحدث في غرداية في حالة التوظيف السياسي، في مواجهة العجز التام لسلطة غير مؤهلة للتعاطي مع وضع كهذا، خارج الأداة الأمنية القمعية التي لم يعد لها من شرعية تاريخية، في ظل تفجر تكنولوجيا الاتصال، وأثرها على المواقف والخيارات الداخلية للسلطات. فقد لمسنا صمتاً مريباً من قادة هذا التيار وفقهائه ومنظريه، حيال ما يأتي خلف نقد الدولة، وموقفها المتخبط، إزاء ما يحدث بين الميزاب وعرب الشعانبة في منطقة غرداية، القريبة من رئة الاقتصاد الجزائري، أي المناطق النفطية في حاسي مسعود. وكل ما قيل من هذا الخطيب، أو صدر عن ذاك الفقيه، أو نطقه قائد حزبي إسلامي، بعد التنديد بإخفاق النظام، وغياب سلطة الدولة في الصراع الطائفي الدائر هناك، فإن الأمر لم يتجاوز دائرة التذكير بالروح الواحدة التي نص عليها القرآن، والحق في الاختلاف الألسني والإثني، ولكن خارج أي تصور منهجي وعملي بديل، يأخذ في الحسبان مسألة التعايش المشترك الذي تفرضه الدولة القُطرية القائمة على أسس المواطنة.

موقف إسلاموي من وضع صدامي مذهبي إثني كهذا، عجز عن مقاربته إجرائياً، وفق آليات التحليل الموضوعي، واكتفى بالتعاطي الخطابي معه، وهو يحيل بالضرورة إلى مسألة استنطاق ما يصطلح عليه بمشروع الحل الإسلامي الذي رُفع في أكثر من محطة مأزومة، شهدتها الأمة، كان ينقض دوماً المشروع الوطني التلفيقي الذي صاغته، وطبقته قيادة الدولة القُطرية، فليست الإشكالات الكبرى للتعايش المشترك بين المسلمين تحل بخطابات "تذكيرية" تعود إلى عاطفة الدين والتدين، في ظل التغيرات الدؤوبة لمجرى التاريخ وملامح الجغرافيا، لا سيما وأن مسألة التعايش في إطار الاختلاف والتمايز الداخلي، وفق منطق الدولة الحديثة، بات ينبني على أساس التعاقد وليس الاعتقاد!

فالدولة، في حالة غرادية، سعت، بكل ما في وسعها، إلى توظيف آليتها القديمة التي يرفضها، أصلاً، منطق الدولة المسؤولة في التعامل مع مسألة الاختلاف اللغوي والمذهبي، منها الخطاب الوردي التوحيدي لمشايخ المذهبين، ونبلاء المدينة ووجهائها وأعيانها، وفشلت تلك المساعي، لأن التاريخ تغير والأجيال تبدلت، والأزمة صارت تتطلب خيالاً أقوى وأحدث، وعملاً ينهض على روح العصر، وليس صقل القديم ومسح الغبار على الرديم.
  
والإخفاق المهم للمعارضة الإسلامية في تحديد موقف واضح من أزمة غرداية هو، في حقيقته، متأت عن إخفاق مريع في استيعاب فشل الدولة الوطنية إزاء إدارة مسألة التنوع الداخلي التي تفضي، أساساً، إلى تقوية الجبهة الداخلية، ما يؤكد، بالضرورة، أن المعارضة الإسلامية هي مشروع إعادة فشل السلطة لا غير، وهذا ربما ما دفع رئيس حركة مجتمع السلم "حمس"، عبد الرزاق مقري، إلى التصريح أخيراً أن الإسلاميين ليسوا جاهزين للحكم الآن.

عدم جاهزيتهم لتولي دواليب السلطة بعد نحو ستين سنة من الاستقلال، ومن وجودهم في المعارضة السرية، وربع قرن من وجودهم في المعارضة العلنية، وإن كانت هذه حقيقة صادمة تجلت لهم قبل غيرهم، من خلال إخفاق الحركة الأم "الاخوان المسلمون" المصرية في قيادة دولة في حالة ثورة، يؤكد هذا، في جانب أهم، فشلهم في تأسيس استراتيجية استيعاب تجربة العمل الوطني القُطري، في مشروع زعموا، في كل محطاتهم الخطابية، أنه الحل لما حصلَ وما هو حاصل وما سيحصل من أزمات! متلبسين، في ذلك، بشرعية النصوص القرآنية، وفق تأويلات خاطئةٍ، ومن دون استنطاق تاريخي لشرعيتها، وإسقاط موضوعي لشرطية اندراجها. 

نخلص، في الأخير، مما تقدم، إلى أن عدم جاهزية الإسلاميين للحكم لا تقف عند حد معضلة غياب استراتيجية العمل السياسي الوطني، القائم على الأسس والمفاهيم الجديدة للقُطرية السياسية، بل يمتد إلى عمق الوعي بالدولة القُطرية ذاتها، وشرطيات انبساطها، واستيعاب آليات سريانها، وكيفية إدارة الحق في الاختلاف، والتوافق وفق أبجديات حقوق الإنسان، المؤسسة لقواعدها في العيش المشترك.

لهذا كله، رأينا كيف أنه يغدو سهلاً، اليوم، على أي فصيلٍ إسلاميٍ أن ينظم مظاهرة أو تظاهرة أو تجمعاً، أو أن يصوغ بياناً بشأن الوضع في غزة، مندداً بوحشية الكيان الصهيوني، ومنادياً بضرورة نصرة الفلسطينيين، في حين يقف مكبلاً أمام حالة إشكالية داخلية، تنطوي على جدلية حق وباطل، لأنه يفتقر للأدوات المحددة للحق والباطل، وفق قواعد لا تشمل الآخر غير العقائدي، أي المذهبي، وكذا الجغرافي القُطري، هذا في وقت يظل جرس المذهب يرن في  ناقوسه الحركي، مع حالة صمت مطبق وغير مشروع، لمشروع زُعم دوماً أنه، في طياته، الحل السحري لأزمات التاريخ التي تنهش في جسد الوطن والأمة.

EE8B5179-E92C-4A0A-9E0F-39AFC92FE39E
بشير عمري

كاتب وصحفي جزائري، يكتب في نقد الخطاب السياسي والفكري، وصدرت له من الكتب "حول السقوط وأزمة الخطاب السياسي بالجزائر" و "العودة من بعيد"، و"ريح آخر الليل".