الإرهاب والتكنولوجيا والبيئة السياسية الدولية

29 يونيو 2015

تكنولوجيا الإنترنت أفادت التنسيق بين العمليات الإرهابية

+ الخط -
تبين الجهات التي تبنت الأحداث الإرهابية التي عرفتها عدة مناطق في العالم في وقت متزامن، والتي تعد تطوراً نوعياً حقيقيا في العنف المنتشر في زمن السيولة العالمية الراهنة، قوتها التعبوية، وقدرتها في استمالة الأتباع في كل أنحاء العالم، فجاذبية تنظيم "داعش" أبانت عن قدرتها الايديولوجية في تغير معطيات السياسة العالمية، وبالتالي، عولمة الإرهاب والعنف. ويوضح هذا التوحيد الزمني للانفجارات وتشتتها المكاني قدرات الإنترنت الكبيرة في تسهيل أنشطة الإرهاب العالمي، ما يقتضي معالجة الحدث من منظور علاقة التقدم التكنولوجي بالأمن العالمي، فهذه التكنولوجيا، بقدر مساهمتها في تحسين الحياة وتسهيلها، والتغلب على الصعوبات، بالقدر نفسه، تهدد هذه الحياة بتسهيلها التنسيق بين التنظيمات الإرهابية والمنخرطين العالميين في هذه الموجة على المستوى العالمي، ما يصبغ على هذا التنظيم هلامية أكبر، وانخراطه الكامل في عولمة حقيقية، بقفزه على الحدود الجغرافية والجنسية واللغوية والعرقية واللون. 
فالإنترنت، بحكم طبيعته، غير خاضع للرقابة الصارمة، نظرا لصعوبتها من الناحية التقنية من جهة، ومن جهة أخرى، نظراً للفلسفة التي تحكم هذا الفضاء، والتي تنطوي على الحرية وتكسير القيود، قانونية كانت أو جغرافية أو سياسية، فالأمر، إذن، يتعلق بفلسفة بناء هذا الفضاء، وأيضا بالعوائق وضعف القدرة التقنية على ضبط جميع التفاعلات فيه. كما ساهمت اعتبارات أخرى في قدرة هذا الفضاء (الإنترنت) على التأثير؛ منها الهبوط السريع في أثمان الحواسيب والارتباط بالشبكة، فهذه التكلفة المتدنية يجعلها في متناول الجميع، بغض النظر عن قدرتهم الشرائية.

أثبت الإنترنت الذي أطلق عليه الخبراء العسكريون "الفضاء الخامس للعمليات الحربية" اليوم قدرته التدميرية، حيث إن الأعمال العسكرية التي كانت تتطلب عتاداً عسكرياً، وإمكانيات مالية ضخمة، وخططاً وتكويناً عالياً، أضحت اليوم سهلة وزهيدة التكلفة، بل يمكن أن نقول إنه بدون تكلفة تذكر، إذا قارنها بنتائجها، والتي تتجسد أساساً في عولمة الذعر والخوف وانتشار عدم الثقة في الشوارع والأسواق، ما ستكون له تكلفة اقتصادية ونفسية باهظة على المديين، القريب والمتوسط.
إذا كانت مساهمة الجانب التكنولوجي تعد العنصر المستجد الأكثر قوة في ما نشهده اليوم، فإن هناك عوامل أخرى، كان لها دور كبير في انتشار العنف العالمي بهذه الدرجة، وتحديه قوة الدولة، بل واستطاعته الالتفاف على أجهزتها الرقابة، ومن هذه العوامل:

العولمة أو السوق
منذ الثمانينيات من القرن الماضي بدأ العالم يشهد زحف العولمة، التي تعني في الأساس هيمنة السوق في صياغة القواعد، ما يقتضي وجوب تراجع الدولة في مجموعة من القطاعات التي كانت حكراً عليها، منها بالدرجة الأولى المجال الاقتصادي، لكن هذا التراجع، أو انسحاب الدولة في الميدان الاقتصادي، كان له تأثير مزدوج؛ بالنسبة للدولة المتقدمة انتقلت بفعل هذه الدينامية إلى ما يصطلح عليه "ما بعد الدولة"، ويقصد به ظهور التكتلات الاقتصادية الإقليمية، مثل الاتحاد الأوروبي، في حين كان تأثير هذا الاتجاه كارثياً على الدول المتخلفة، حيث إن انسحاب الدول في المجال الاقتصادي أفقدها قوتها، ودفعها إلى ترك مناطق الفراغ وهوامش غير خاضعة لسلطتها، وقد أفضت هذه الفراغات إلى بروز الفاعلين الآخرين لملئه، وغالباً ما كان هؤلاء من تنظيمات المعارضة في وقت سابق، حيث بدأوا تدريجيا بفرض قوانينهم في هذه المناطق. فالبيئة الدولية الجديدة هي التي ساهمت في تقوية مكانة الأفراد والجماعات، بالإضافة إلى الطغيان والاستبداد؛ ولا أقصد فقط الاستبداد الذي يمارسه الطغاة في البلدان المتخلفة، بل أيضا الاستبداد الذي تمارسه الدول المتقدمة، والممثلة في مجموعة G8، ورديفتها من المؤسسات المالية الدولية التي تخطط للاقتصاد الدولي، وتهندس خريطة الفقر والغنى على المستوى الأعلى من الاقتصاد الكوني. لذلك، الاستبداد ثنائي واحد محلي، والثاني عالمي.

غياب القائد
يعيش العالم أزمة القيادة، فالولايات المتحدة الأميركية وحدها غير قادرة على ضبط التفاعلات العالمية. أولاً، نظرا لتعقدها. وثانياً، لانشغالها بأزماتها الداخلية، خصوصاً التدهور الاقتصادي وأزمة نظام مؤسساتها السياسية، بالإضافة إلى سعيها إلى إدخال لاعبين آخرين، لتحمل المسؤولية في استتباب الأمن العالمي، شريطة أن يكون ذلك تحت قيادتها وتوجيهاتها. فهي تحس بنوع من الغبن من الفاعلين الدوليين الآخرين الذين يستفيدون من تحملها أعباء الحفاظ على الأمن العالمي، من دون أن تحصل على مقابل هذه المسؤولية بالقدر الكافي؛ بمعنى أن الأمن الدولي يجب أن يدفع المستفيدون منه مقابله، فهو لا يعني فقط الولايات المتحدة الأميركية، فهناك عمالقة اقتصاديون يستفيدون من دون دفع التكاليف. من هنا، جاءت ما تسمى "استراتيجية الآمن القومي الأميركي لسنة 2010" الذي سطر ما يطلق عليه "القيادة من الخلف"؛ وهي استراتيجية توزيع النفوذ على قوى جهوية، مثل فرنسا واليابان والهند وغيرها من الدول، على المستوى الجهوي، وتحت إشراف الولايات المتحدة الأميركية.
مما سبق، يمكن القول إن المعطى التكنولوجي لعب دوراً تنسيقياً كبيراً في الهجمات الإرهابية التي عمت اليوم مناطق عديدة في العالم، كما نشرت الذعر، بالنظر إلى سرعة انتشار الخبر على القنوات الفضائية والشبكات الاجتماعية ومواقع الإنترنت. وهنا يمكن القول إن الخسائر لا تتمثل في تعداد الأرواح والجرحى فقط، بل يجب الانتظار لتقييم تكلفة هذا الحدث على المستويين، الاقتصادي والنفسي، والذي نجح في تحقيق أهدافه في الزاوية.
أيضاً، سيكون لهذا الحدث أهمية كبيرة في تغير قواعد اللعبة الدولية، وفي تقليم أظافر السوق ورجال أعمال، وسيتم عودة الدولة بقوة، لإعادة ضبط التفاعلات على المستويين، المحلي والعالمي، عبر فرض الرقابة على الإنترنت بشكل كبير، وسن قوانين جديدة لمراقبة الحدود. في حين سيتقوى خطاب اليمين المتطرف في أوروبا، والمحافظين في الولايات المتحدة، وسنشهد قوانين هجرة جديدة، واستراتيجيات أمنية غير مسبوقة، لأن الأمر خرج عن السيطرة والحدود المرسومة له، وهي سورية والعراق بالدرجة الأولى. كما سينتج عن هذا الحدث تراجعا في خطاب حقوق الإنسان أمام الأولويات الأمنية، نظراً للحساسية التي ستنتشر بين الدول، وهو ما سيستفيد منه الديكتاتوريون بالدرجة الأولى.

63BD6FE9-7B37-44DC-8821-91DDBC80A1CD
حميد بوهدا

باحث مغربي في العلاقات الدولية