أصبحت ظاهرة اعتيادية أن يستيقظ الفلسطينيون في الضفة الغربية أو داخل الخط الأخضر ليكتشفوا أن مسجداً أو كنيسة قد أحرقت، أو مقبرة قد عُبث بها، أو كرم زيتون قد اقتلعت أشجاره، أو بئر ماء قد دُمّر، أو سيارة قد أُعطبت. ففي أقل من أسبوع، أحرق مسجد في مدينة أم الفحم، وكُتبت شعارات معادية للفلسطينيين والمسلمين على جدران مسجد في بلدة الفريديس. وفي جميع الحالات، فإنّ منفّذي الهجوم يعلنون أنهم يمثلون جماعة "شارة ثمن" اليهودية الإرهابية، وذات الخلفية دينية، والبنية التنظيمية الفضفاضة. وقد جاء اختيار اسم "شارة ثمن" ليعني أنه يتوجب جباية الثمن من الفلسطينيين لقاء أي سلوك منهم أو من الحكومة الإسرائيلية يؤثر "سلباً" على المشروع الاستيطاني.
وعلى الرغم من أنها تفتقر لنسَقٍ قيادي موحّد، لكن أفرادها يلتقون حول فكرة "قدسية المسّ بالعرب"، على اعتبار أنها وسيلة لتكريس الوجود الاستيطاني اليهودي في أرجاء الضفة الغربية. وينطلق أفراد العصابة من مستوطنات في جميع مناطق الضفة الغربية والقدس، لكن مستوطنة يتسهار، القريبة من نابلس، وسط الضفة الغربية، تمثل "النواة الصلبة" لعناصرها. ويشير الكاتب في صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية، حاييم ليفنسون، إلى أن "شارة ثمن" انطلقت عام 2008، داخل يتسهار، وأكد أن مستوطنين آخرين أخذوا ينخرطون في أنشطتها، حتى أصبحت عملياتها تغطي جميع أرجاء الضفة الغربية والقدس والبلدات الفلسطينية داخل الخط الأخضر.
التأصيل الفقهي
لا يمكن فهم اتساع الأنشطة الإرهابية لـ"شارة ثمن"، من دون التعرف على الدور الذي تقوم به مرجعيات "الإفتاء" اليهودية في إضفاء شرعية على هذه الأنشطة. وعلى الرغم من أن عدداً من كبار الحاخامات قد أفتوا بجواز تنفيذ عمليات "شارة ثمن"، إلا أن الذي أدّى الدور الرئيس في "التأصيل الفقهي" لتبرير هذه العمليات الإرهابية، هو الحاخام يتسحاك جينزبورغ، أحد أبرز المرجعيات الدينية اليهودية، والذي يدير مدرسة دينية في يتسهار. وتنقل صحيفة "معاريف" طروحات جينزبورغ لتبرير هذا الإرهاب، إذ يقول إن "المجتمع الإسرائيلي يمر بمرحلة ولادة من جديد، ونظراً لأن عملية الولادة تكون مقترنة بآلام لكل من الأم والجنين، فإن الجنين يهتزّ بفعل الألم في كل اتجاه لتخفيفه، ويقوم بأعمال غير خاضعة للسيطرة، وعمليات التخريب التي ينفذها الشباب اليهودي في مواجهة الغوييم (غير اليهود)، هي مثال على هذه الأعمال غير الخاضعة للسيطرة".
ويرى جينزبورغ أن يتسهار، التي تحتضن نشطاء "شارة ثمن"، تمثّل في الوقت الراهن "رحماً سيلد الشعب الجديد"، الذي سيعيد بناء دولته ومؤسساتها من جديد. وقد سبق له أن ألّف كتاب "باروخ البطل"، والذي تضمّن "تأصيلاً فقهياً" لتبرير المجزرة التي ارتكبها باروخ غولدشتاين، في 15 فبراير/ شباط 1994، عندما أطلق النار على عشرات المصلين أثناء أدائهم صلاة الفجر في المسجد الإبراهيمي في الخليل، فقتل 29 مصلياً وجرح العشرات. ويحظى الاتجاه الذي سلكه جينزبورغ، في "التأصيل الفقهي" لتبرير إرهاب "شارة ثمن"، بدعم عدد كبير من مرجعيات دينية بارزة، في مقدمتها الحاخامات دون ليئور وإسحاق ليفانون وأبراهام ملميد، وغيرهم.
غطاء الحكومة ورعايتها
على الرغم من أن العام 2008 يُعتبر تاريخ انطلاق عمليات "شارة ثمن" في صورتها العنيفة، إلا أن هناك في إسرائيل مَن يرى أن جذور هذه التشكيلات الإرهابية تمتد إلى عام 1998، عندما ظهرت في المستوطنات مجموعات أطلق عليها اسم "فتية التلال"، وهي المجموعات التي تشكلت بناءً على تعليمات واضحة ومباشرة من أرييل شارون، عندما كان يشغل منصب وزير الخارجية في حكومة بنيامين نتنياهو الأولى. وعندما فشلت مفاوضات "واي بلانتيشن"، عام 1998، والتي جمعت نتنياهو بالرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، طالب شارون المئات من شباب المستوطنات الذين استقبلوه في مطار بن غوريون، بحسم مصير الضفة الغربية عبر السيطرة على تلالها. وهذا ما حدث بالفعل، إذ توجه هؤلاء الشباب للسيطرة على مساحات واسعة من الأراضي الفلسطينية الخاصة. وقد أطلق في ما بعد على هؤلاء الشباب، اسم "فتية التلال"، وهو ما بات يمثّل "تياراً فضفاضاً" متجانساً من ناحية فكرية، ولا يربطه نسق قيادي موحّد، تماماً كـ"شارة ثمن".
وقد نشأت عن ظاهرة "فتية التلال"، ما بات يعرف "النقاط الاستيطانية غير الشرعية". فلم يكتفِ "فتية التلال" بالسيطرة على التلال، كما حثّهم شارون، بل أقاموا فوقها أيضاً نقاطاً استيطانية من دون إذن الحكومة. وهناك في إسرائيل مَن يرى أن "شارة ثمن" قد وُلدت من رحم "فتية التلال"، بما أنه بعد الانتهاء من السيطرة على معظم التلال في الضفة الغربية، انتقل كثيرون من المجموعة الاولى إلى العمل الإرهابي تحت غطاء الأخيرة.
وعلى الرغم من أن نتنياهو يحذر من عمليات "شارة ثمن" على إسرائيل وصورتها الدولية، لكن وزراء في حكومته يرفضون تعقّب أفرادها ومحاسبتهم. ورفض وزير الإسكان، أوري أرييل، بوضوح، أية إجراءات تستهدف طلاب مدرسة في يتسهار ثبت أنهم يشاركون بفاعلية في عمليات "شارة ثمن". وكذلك وزير الاقتصاد، نفتالي بينيت، الذي يتزعم ثالث أكبر حزب في الائتلاف الحكومي، "البيت اليهودي"، لم يتردد في التهديد بالانسحاب من الحكومة في حال توقيف المرجعيات الدينية التي تحرض على الإرهاب والعنف، حتى عندما يطال جنود جيش الاحتلال، كما حدث في يتسهار، قبل أسبوعين.
إذاً، توفّر دولة الاحتلال كل المقومات التي تسمح بتعاظم الإرهاب الصهيوني الموجَّه ضد الفلسطينيين ليُفاقم عبء العدوان الذي يمارسه جيش الاحتلال وتأثيره بقصد ضرب قدرة الفلسطينيين على الصمود.