وفي كل الأحوال، فإن اعتداءات السنوات الأخيرة ومنها جريمة إل باسو التي "نظّر" مرتكبها لها في بيان من 2300 كلمة، تكشف عن سلسلة مترابطة من "الاستلهام" في الحلقة الدموية هذه. فمنفذ جريمة إل باسو اختار في أول جملة من المانيفستو الذي كتبه إعلان تأييده لمرتكب مذبحة كرايستشيرش (نيوزيلندا)، برنتون تارانت، ضد المسجدين، والتي راح ضحيتها 51 مسلما. والأخير استلهم أيضاً من سفاح أوسلو، أندرس بريفيك، الذي ارتكب مذبحته الإرهابية الشهيرة في جزيرة أوتويا ومباني الحكومة في العاصمة صباح 22 يوليو/تموز 2011.
وتعيد الجريمة الجديدة المتابع إلى قراءة "المنهل الفكري"، أو الأيديولوجي، إن صحّ التعبير، لشاب لم يتجاوز الـ21 عاماً، ولم يكن سوى في سنّ المراهقة، حين ارتكب بريفيك مجزرته، خصوصاً أنه قدّم "مانيفستو" قتله 77 مدنياً، جلّهم من الشباب، ومن أعراق مختلفة، وإن طغى عليهم النرويجيون البيض.
من بريفيك إلى إل باسو: سلسلة استلهام
اعتبر بريفيك عمله "قومياً"، يستهدف تنظيف النرويج وغرب أوروبا من الإسلام، وما أطلق عليه توصيف "الثقافة الماركسية"، وتعددية مجتمعات أوروبا. فقد ذكر في مانيفستو "إعلان الاستقلال الأوروبي" A European Declaration of Independence، من بين أمور كثيرة، أنه "يجب اقتلاع النخب الحاكمة الماركسية والمتعددة الثقافات من السلطة باستخدام العنف". في الواقع، جاء هجوم بريفيك على معسكرٍ صيفي لحزب اجتماعي ديمقراطي، "حزب العمل"، على خلفية تخوين المنفذ للحزب باعتباره "مسؤولاً عن الهجرة الإسلامية الكثيفة (إلى بلده)".
وبالرغم من تفاخر بريفيك بنفسه على أنه "متصيد الماركسيين" Marxist Hunter، حين نشر صورته مسلحاً، ومستخدماً اللغة الإنكليزية في كثير من أفكاره وتعليقاته قبيل جريمته، التي كشف عن هدفها بنفسه لاحقاً، وبالأخص عن علاقاته برفاقه من مجموعات التعصب العرقي الإرهابية في الغرب. ببساطة، يرى بريفيك في "مانيفستو" المذبحة التي ارتكبها أنه "من الضروري استخدام الإرهاب لإيقاظ الجماهير، فهذا الجانب القبيح من عملياتنا".
في تسجيله عام 2011 لمدة 12 دقيقة، ظهر بريفيك في شريط فيديو، مرتدياً زياً قتالياً ومتسلحاً، وهو يخبر عن مستوى كراهيته للمسلمين، معتبراً نفسه أحد جنود خيالة المعبد الحديثين، نسبة إلى الحملات الصليبية في العصور الوسطى ضد المسلمين، مع كثير من التحريض على المؤسسات الحاكمة التي يعتبرها ماركسية.
إذاً، اعتبر بريفيك في الواقع نفسه، وبلغته، "مقاتلاً مسيحياً" يحاول وقف "اجتياح المهاجرين المسلمين لبلده وغرب أوروبا"، مع نقمةٍ متشابهة بين اليمين القومي العنفي في الغرب، ضد مؤسسات الحكم، واتهامها بالتراخي.
ومن هنا تأتي أهمية الربط هذه الأيام بين "مانيفستو" بريفيك واستلهام منفذي الجرائم الإرهابية في نيوزيلندا وأميركا أخيراً، وهجمات متفرقة في أوروبا ضد المسلمين.
في إل باسو، صحيح أن مرتكب المذبحة، باتريك كريسيوس، لم يتحدث عن المسلمين، لكنه بالتأكيد لم يكن بعيداً عن لغة "الغزو" المستخدمة في "مانيفستو" الإرهاب الأبيض.
يرى الشاب في "مانيفستو" الحقيقة المزعجة"، The Inconvenient Truth، لتبرير مذبحته، وبالأخص ارتكابها قرب الحدود المكسيكية، أن "اللاتينيين سيأخذون السيطرة على سلطات "ولاية تكساس الحبيبة ليغيروا السياسة لتناسب احتياجاتهم بشكل أفضل".
فهو إذاً لا يبتعد كثيراً عن مانيفستو بريفيك، معتبراً أن وجود مهاجرين، أو لنقل وجود أعراق أخرى من غير البيض، يشكل تهديداً للعرق الأبيض. وعليه أيضاً، لم يكن غريباً أن تتواصل السلسلة، من إعجاب واستلهام من مرتكب مذبحة كرايستشيرش (نيوزيلندا)، برنتون تارانت، ضد المسجدين، والتي راح ضحيتها 51 مسلما، والذي استلهم أيضاً من بريفيك.
في المرات الثلاث، من أوسلو في يوليو 2011، إلى كرايستشيرش، في مارس/آذار الماضي، وإل باسو، السبت في الثالث من أغسطس/آب الحالي، رأى الإرهابيون الثلاثة أنهم "مضطرون" للقيام بمذابح ضد المهاجرين، أو بحسب معتقدهم "إيقاف غزو المهاجرين". ففي "مانيفستو" كريسيوس، "الحقيقة المزعجة"، من الواضح أن الشاب يبرر مذبحة إل باسو باعتبارها عملية "دفاعية"، وأنه لا يستطيع تحمل البقاء "سلبياً" (من دون الإقدام على فعل أي شيء)، وأن عملية القتل في مصلحة حماية أميركا. كريسيوس يقول أيضاً، توضيحاً بلا مواربة: "لم أعد أستطيع تحمل عار عدم التصرف، مع العلم أن آباءنا المؤسسين أعطوني الحق للقيام بالمطلوب (المذبحة) كضرورة لإنقاذ بلدنا من الدمار". الأمر عينه قدمه تارانت في نيوزيلندا من خلال "البديل العظيم"، والذي تحدث أيضاً عن أن "إبادة جماعية للبيض" تجري بسبب الهجرة، وعمليته أراد منها "إشاعة الخوف بين المسلمين".
بالعودة سريعاً إلى "مانيفستو" النرويجي بريفيك، لم يخف الرجل وجود روابط وصلات بين اليمين الفاشي المتطرف في الغرب، حين تحدث عن زياراته لرفاقه في عدد من دول أوروبا، القريبة في اسكندينافيا، والأبعد جنوباً، بما فيها إيطاليا وألمانيا. بل المثير أن بريفيك وقّع على "المانيفستو" بأنه فارسٌ من فرسان المعبد وواحدٌ من قادة "حركة المقاومة الوطنية الأوروبية" The National and pan-European Patriotic Resistance Movement، معدّداً إخوته في المساعدة في كل من "بريطانيا وفرنسا وألمانيا والسويد والنمسا وإيطاليا وإسبانيا وفنلندا وبلجيكا وهولندا، والدنمارك والولايات المتحدة الأميركية، إلخ".
للأحداث التالية التي وقعت بعد العام 2011، تاريخ إطلاق بريفيك لعمله الإرهابي، ودخول المتابعين في ما يشبه حلقة من "الإعجاب والاستلهام"، تشير إلى عمق المأزق الذي تعيشه مجتمعات الغرب في تقدم روح التعصب القومي، التي تغذي بالتأكيد ما يشبه مذابح تبررها وتعزز منها- أقله في السنوات الأخيرة- سياسات رسمية غربية تصب في النبع ذاته، تصريحاً ومخاطبة وقوانين. ولعل هذا ما سيكشف الرابط بين "مانيفستو" كريسيوس في مذبحة إل باسو وصرخات دونالد ترامب، منذ ما قبل انتخابه، عن المهاجرين المكسيكيين واللاتينيين والمسلمين، وعموم غير البيض، باعتبارهم غزاة ويجب وقف دخولهم إلى الولايات المتحدة، وتكرار عدوانية الحديث عن بناء جداره، والاستعلائية العرقية في مخاطبة مواطنين من خلفيات عرقية غير بيضاء، وآخرها مع ما يشبه التحريض على مشرعين منتخبين في بلده.
مانيفستو يومي رسمي للتحريض
في حالتي النرويج ونيوزيلندا، بدا، وبوضوح، أن الطبقة السياسية، الحاكمة والمعارضة، في كلا البلدين، لم تكن تشكل تربةً سياسية خطابية خصبة في ما يتعلق بمانيفستو الكراهية والإرهاب. ورغم وجود أحزاب يمينية في البلدين، غير مؤيدة للسياسات الحكومية في ما خصّ الهجرة عموماً، والمسلمين على وجه التحديد، إلا أن رفضاً واسعاً تلقاه تارانت وبريفيك. وذلك لا ينفي أبداً وجود من يعمل في الظلام على تجييش مشابه لإرهاب الرجلين، وربما هو ما يؤكده تسارع العمليات، ومحاولة الإقدام عليها في أكثر من مكان، وبالأخص زيادة منسوب الهجمات على مساجد ومراكز إسلامية، وإن كان الأمر ليس محصوراً بالمسلمين، لدى أمثال هؤلاء الذين يتحدثون عن العرقية والتعددية الثقافية والقومية.
وعلى عكس "مانيفستو" بريفيك وتارانت، فإن "مانيفستو" كريسيوس في تكساس، سواء على مستوى اللغة أو الاستلهام، يسلط الضوء على عودة روح التعصب القومي العرقي في الولايات المتحدة مع قدوم ترامب، الذي تفيد حتى وسائل إعلام أميركية، بأن منفذ هجوم إل باسو وجد في ترامب أيضاً ملهماً له. ولعل الرئيس الأميركي بنفسه لديه "مانيفستو" خاص به، رغم قوله إنه "لا مكان للكراهية"، فقد سُجل في أكثر من مناسبة ذهابه للتنظير الكريه والمدافع عن أفعال كراهية وعنف عنصري من أنصاره البيض بحق أميركيين يعارضون سياساته. فأزمته مع أعضاء الكونغرس الإناث، وقبلها تحريضه على بناء جدار المكسيك، وتشريع سياسات تجريم مسلمين ومنعهم من دخول الولايات المتحدة، هي مجرد أمثلة بسيطة في سلسلة طويلة مما يشبه تقديم أعذار لارتكاب جريمة إل باسو، التي لا يبدو في السياق أنها ستكون الأولى والأخيرة طالما ظلت ثقافة العنصرية العرقية، وتحميل الآخرين مسؤولية حتى تناقص نسب المواليد بين البيض مقارنة بـ"الملونين".
بمناسبة ذلك الخطاب السائد غربياً، لا يمكن أيضاً الفصل مع ما يجري في القارة الأوروبية، تحديداً الاندفاعة المتطرفة بعيد انتخاب دونالد ترامب إلى البيت الأبيض.
ففي كل مانيفستو كراهية يُكشف عنه في أعقاب مذبحة إرهابية، تحضر المفردات الآتية: الغزو/الاجتياح، والمهاجرون/المسلمون. لكن التوقف عند مشاهد معينة في أوروبا، سيكشف عمق ترسخ الخطاب وتبنيه رسمياً لدى البعض، وإن كان من دون مذبحة أو إرهاب دولة.
في المجر وتشيكيا وسلوفاكيا وغيرها من دول شرق ووسط أوروبا الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، بدا الخطاب الرسمي أقرب إلى ما قدمه مرتكبو المذابح خلال الأعوام الأخيرة. في المجر، مثلاً، لم يتردد رئيس حكومة بوزن فيكتور أوربان من تقديم خطاب أشبه بما قدمه مانيفستو "المقاتل المسيحي الأبيض" (كما عرف نفسه) أندرس بريفيك في النرويج. فأوربان تحدث كثيراً عن "اجتياح وأسلمة أوروبا". الرجل أيضاً يعتقد ويؤمن بفكرة أنه "مدافعٌ عن القيم الأوروبية المسيحية" بوجه "غزاة مهاجرين". ويتلاقى خطاب أوربان السياسي حول تراجع الخصوبة بين البيض، مع ما جاء في "مانيفستو" مرتكب مذبحة كرايستشيرش، تارانت، الذي قال إنه "وللحفاظ على عدد السكان، يجب تحقيق معدل مواليد يصل إلى مستويات الخصوبة البديلة في الغرب، بحوالي 2.06 ولادة لكل امرأة". أوربان أقر العام الماضي قانوناً مثيراً لتشجيع نساء بلاده على الإنجاب لمواجهة "الغزو الإسلامي" (المهاجرين) بمحفزات مالية كبيرة، وبنظرة عنصرية لم تستطع حتى دول الاتحاد فرملة اندفاعاتها داخل البلد.
في روما، ومنذ ما قبل مجيئه إلى السلطة، تزعم وزير الداخلية، وزعيم حزب "ليغا"، ماتيو سالفيني الخطاب التحريضي نفسه. اليوم، تعيش إيطاليا ما يشبه حالة تطبيع، بل استدعاءً ونوستالجيا فاشية ترى في أن البلد يحتاج إلى موسيليني مجدداً.
وثمة مفارقة في السلسلة المتتالية لشيوع فكرة استخدام الإرهاب واتهام "الآخرين"، المهاجرين أو الأعراق الأخرى، سواء بخطاب ضمني يتكفل بتقديم مسوغات سياسية واجتماعية، أو تلك الثقافية التي يعرضها منظرو اليمين المتطرف، أن يكون مستشار ترامب السابق للشؤون الاستراتيجية، ستيف بانون، أحد عرابيها في أوروبا اليوم، كما يفعل في معسكر ماتيو سالفيني وفيكتور أوربان و(زعيمة اليمين المتطرف الفرنسي) مارين لوبن، والذي يتسع هذه الأيام من النرويج إلى السويد فالدنمارك والنمسا، وصولاً إلى ألمانيا وإسبانيا وبقية دول القارة، التي تضم غير "حزب البديل لأجل ألمانيا" في خانة التبرير للتطرف القومي.
الغرب في مواجهة الحقيقة
يوم أول من أمس الأحد، كتبت "لوس أنجليس تايمز" بصريح العبارة، أن الخوف الآن بات "من الإرهاب الداخلي والعنصرية البيضاء". لكن المأزق الذي تتشارك فيه الولايات المتحدة مع العديد من الدول الغربية، مستمر في ذات السياق الذي تذهب فيه النخب الحاكمة إلى تملق اليمين القومي المتطرف بكثير من النفاق والأخبار المزيفة لكسب الجمهور، عبر التحريض على الآخرين باعتبارهم "مهاجرين يسرقون عمل البيض ويدمرون ثقافة الرجل الأبيض"، أقله هو الخطاب الذي تستند إليه الطبقة المؤيدة لترامب الأميركي، ومن يشبهه أو يتشبه به في أوروبا. وللأسف فإنه حتى خارج أوروبا، ثمة خطاب تحريضي عنصري يتوسع باتساع أزمات المجتمعات.
على ضوء تكرار أكثر من "مانيفستو" تبرير الإرهاب، ثمة من يرى أن الإرهاب بات معدياً، مع دوافعه، "لأنه يقوم على مبررات سياسية متعصبة ومليئة بالكراهية". فأن يستلهم مرتكب مذبحة نيوزيلندا من إعجابه بمرتكب مذبحة أوسلو، وأن يستلهم مرتكب مذبحة إل باسو في تكساس من الأول والثاني، مؤشر على أن القضية أعمق من مجرد نقمة فردية، فما يدور في أروقة الفاشيين في أوروبا وأميركا ليس بالأمر البسيط والسطحي، بل يمكن أن يهدد عملياً وحدة وتماسك تلك المجتمعات والدول، باعتبار أننا أيضاً أمام حالات مترسخة وأبعد من هجمات السبت، ويكفي فقط التفكر بما استند إليه مرتكب مذبحة أوكلاهوما، تيموثي مكفاي، من كتاب The Turner Diaries (مذكرات تورنر) لمؤلفه وليام لوثر في العام 1978 تحريضاً على العنف والتعصب القومي والتطرف العرقي، وهو الكتاب الذي يعتبر إنجيلاً مقدساً لدى جماعات اليمين المتطرف، قبل بروز أي "مانيفستو" حديث من مرتكبي الإرهاب الجديد.