الانعزال الاجتماعيّ من جرّاء الانغماس في الشاشات، أمر ينبّه إليه معنيّون نفسيّون واجتماعيّون وتربويّون في شؤون الأطفال. وهو ما يدفع جهات عدّة، ولا سيّما مدارس أوروبيّة، إلى فرض حظر للشاشات.
تُتَّهم الشاشات باختلافها، بأنّها تسيء إلى الأطفال. أمر لا ينكره أهل الاختصاص، ويُعِدّون دراسات في هذا السياق ويضعون مبادئ توجيهيّة ويحذّرون الأهل من عواقب إهمالها. ثمّة دراسات تحظى باهتمام، وأخرى تُعَدّ "غير واقعيّة" في عالمنا الحاليّ.
"نحن نعيش اليوم في عالم رقميّ"، أمر واقع تؤكّده المتخصّصة في علم نفس الأطفال والمراهقين والمعالجة النفسيّة في دائرة الطبّ النفسيّ التابعة للمركز الطبيّ في الجامعة الأميركيّة في بيروت، كارلا نجم. وتقول في حديث إلى "العربي الجديد"، إنّه انطلاقاً من ذلك، "في حال حُرِم الأطفال من استخدام الشاشات فسوف يُسجَّل فارق بينهم وبين أطفال آخرين، ولا سيّما أقرانهم، ومن الممكن أن يؤثّر الأمر على التفاعل الاجتماعيّ الخاص بهم من جهة وعلى معلوماتهم من جهة أخرى، وكذلك قدرتهم على مواكبة العالم الرقميّ. وثمّة مدارس اليوم بدأت تدمج الأجهزة اللوحيّة في منهجها الأكاديميّ".
وعند سؤالها عن السنّ المناسبة لتعريض الأطفال إلى الشاشات، تجيب نجم بأنّه "لا تتوفّر معايير محدّدة تتناول السنّ. لكن، ثمّة مبادئ توجيهيّة عامة تفيد بأنّ نشاط الطفل دون الخامسة على سبيل المثال، لا بدّ أن يكون تفاعليّاً على الجهاز اللوحيّ، مع مشاركة الأهل". وتشرح أنّ "من الضروريّ وجود الأهل إلى جانب طفلهم في خلال نشاطه هذا، بالإضافة إلى التفاعل اجتماعيّاً حول اللعبة أو برنامج التلفزيون وما إليهما، أي أن يشرحوا ماهيّتها له". وتشدّد هنا على أنّ "تطوير التعبير اللفظيّ مهمّ جداً بين سنّ الثانية والثالثة. وثمّة دراسات تبيّن أنّ الأطفال الذين يشاهدون التلفزيون لفترات طويلة في هذه المرحلة العمريّة، يتأخّر لديهم تطوّر التعبير اللفظيّ". وتلفت نجم كذلك إلى "ضرورة أن يتنبّه الأهل للبرامج التي يشاهدها طفلهم والألعاب التي يمارسها. هل هي مناسبة لسنّه؟ وماذا بشأن مضمونها؟ هل يوافقون عليه كعائلة أم لا؟ الأمر كلّه في يد الأهل. القرار هو قرارهم. هم المسؤولون".
يكفي أنّهما "ساكنان" (Getty) |
وماذا عن الأهل الذين يعمدون إلى وضع طفلهم أمام شاشة التلفزيون مثلاً، وهو يبلغ أشهراً عدّة فقط، بهدف "إسكاته"، أو يبتاعون للأكبر سنّاً جهازاً لوحيّاً أو هاتفاً ذكيّاً حتى يلهوه، فلا يضطروا إلى تحمّل تململه أو تذمّره وصخبه؟ بالنسبة إلى نجم، "هذا أمر سلبيّ جدّاً. لا شكّ في ذلك. الأطفال من سنّ صفر إلى أحد عشر عاماً أو اثنَي عشر عاماً وحتى أكثر، في حاجة إلى تحفيز. من أجل أن ينمو دماغ الطفل عضويّاً وإدراكيّاً، هو في حاجة إلى تفاعل دائم مع الأكبر سنّاً، وإلى تحفيز الاستكشاف وتشغيل حواسّه. هو في حاجة إلى أن يلازمه أهله لوقت طويل، فيحدّثوه ويعلّموه على سبيل المثال الألوان والأشكال والأصوات والأحرف وما إليها. في حال أُهمِل الطفل في هذه المرحلة ولم يتوفّر التحفيز المطلوب له وكان متروكاً أمام شاشة التلفزيون طوال الوقت ونشاطه سلبيّ طوال الوقت، فإنّ من شأن ذلك أن يؤثّر على ذكائه مستقبليّاً وعلى نموّه العقليّ والذهنيّ، بالإضافة إلى تفاعله الاجتماعيّ وتطوير التعبير اللفظيّ لديه".
وتتابع نجم أنّ "الأمر سيّئ لا فقط لأنّه يتعلّق بالشاشات، بل لأنّ الوقت الذي يقضيه الطفل أمام الشاشة يقضم من وقت النشاطات التفاعليّة التي يحتاج إليها. عندما يلجأ الأهل إلى أيّ شيء لإسكات طفلهم أو إلهائه عنهم أو لوقف تململه وتذمّره، فإنّهم في الواقع يعلّمونه كيف يتململ ويتذمّر. هو كلّما فعل ذلك حصل على ما يريده، من ثمّ فإنّه سوف يمضي في ذلك التململ والتذمّر للحصول على ما يريد. ويتحوّل الأمر إلى حلقة مفرغة، فنحن نعطيه الجهاز أو نضعه أمام الشاشة لأنّه يكثر من التململ والتذمّر، فيقضي إذاً وقتاً طويلاً أمام الشاشات".
في أيّ سنّ من المفضّل أن يُسلَّم الطفل هاتفاً ذكيّاً خاصاً؟ تقول نجم: "الأمر مرتبط بكلّ حالة على حدة. لكن بالنسبة إليّ، لا أفضّل ذلك قبل الثانية عشرة، حتى يكون الطفل أكثر وعياً لجهة الإدراك وفهم المخاطر. وفي هذه السنّ كذلك، يجب أن تكون ثمّة مراقبة من الأهل، لجهة التطبيقات المستخدمة ووقت الاستخدام، ولا بدّ في الوقت نفسه من تثقيف الطفل حول التنمّر والحسابات الوهميّة والهاكرز (قراصنة الإنترنت)، وحول فعل إرسال الصور وتسجيلات الفيديو إلى الآخرين... أي كلّ ما يمكن أن يتسبّب في مخاطر له. بالنسبة إليّ، قبل هذه السنّ، الهاتف الذكيّ ليس صحيّاً لأنّه مفتوح على التواصل الاجتماعيّ الافتراضيّ". تضيف نجم: "أمّا في ما يخصّ الجهاز اللوحيّ الذي يحتوي فقط الألعاب، فلا سنّ معيّنة، إنّما من الضروريّ التنبّه إلى الحدّ من الوقت وإلى نوعيّة الألعاب وإلى التفاعل ومشاركة الأهل. لا يمكننا أن نعطي الطفل في سنّ مبكرة جهازاً لوحيّاً ونتركه وحده في غرفته ساكناً، في حين أنّنا منشغلون بأمور أخرى. لا بدّ من أن يكون النشاط تفاعليّاً. فالألعاب قد تكون تعليميّة، من قبيل تعلّم الألوان والأشكال والأحرف، أو اجتماعيّة من قبيل الأغاني والقصص أو نفسيّة من قبيل تعلّم المشاعر وما إليها".
وتشدّد نجم على "ضرورة ألا يستهلك هذا النشاط (الشاشات) من وقت نشاط آخر، ولا سيّما النشاطات البدنيّة، ولا من الوقت المشترك مع أفراد العائلة من قبيل وجبات الطعام أو النزهات أو الدردشة، ولا من وقت الدرس، ولا من وقت النشاطات الخارجيّة مع الرفاق، ولا من وقت النشاطات اللاصفيّة من قبيل الرسم وكرة السلّة والرقص وغيرها... المهمّ ألا يستهلك من وقت أمور أساسيّة من حياة الطفل". وتشير نجم إلى أنّه "في حال لاحظنا أنّ الطفل يركّز كلّ اهتمامه على الجهاز اللوحيّ على سبيل المثال، ولا يدردش مع أفراد العائلة، ويسرع في تناول طعامه حتى لا يفوّت لعبة ما، ويهمل رفاقه مفضّلاً البقاء ساعات وحده أمام الشاشة، فلا بدّ من أن يتدخّل الأهل". وتشرح أنّ "من شأن ذلك أن يؤدّي إلى انعزال اجتماعيّ، إذ إنّ المهارات الاجتماعيّة تتراجع، أي نموّه الاجتماعيّ الخاص. كذلك فإنّ الأمر يؤثّر سلباً على نفسيّته".
إلى أيّ درجة نستطيع لوم المجتمع؟ ترى نجم أنّه "لا يمكننا التعميم. من الممكن أن يشجّع المجتمع على ذلك لعدم توفّر نشاطات أخرى في متناول الأطفال. فهؤلاء الذين يعيشون في الغرب على سبيل المثال، لديهم فرص أكثر ممّا لدينا، في ما يتعلّق بالنشاطات الخارجيّة. ثمّة متنزّهات ومسارات للدرّاجات وغيرها. عندنا، مثل هذه المساحات غير متاحة كثيراً، لذا يقضي الطفل معظم وقت فراغه في المنزل بينما الأهل منشغلون عنه. هو سوف يشعر بالملل، وبالنسبة إليه الجهاز اللوحيّ يجعله يتسلّى أكثر من البازل وفيه تجدّد دائم وألعاب تحمل تحدّيات ونجاحاً... هكذا، فإنّه سوف يذهب بالتأكيد في هذا الاتجاه". وتؤكدّ نجم أنّ "الأهل لا يستطيعون أن يطلبوا من الطفل الذي يشعر بالملل ألا يستخدم الجهاز اللوحيّ، وفي الوقت نفسه لا يوفّرون له بدائل أخرى"، مضيفةً "نطلب منه التوقّف، إذاً فلنلعب معه بالبازل مثلاً أو فلنعدّ وجبة طعام معاً أو عجينة أو نصمّم أشكالاً بالمكعّبات... كلّ نشاط آخر مشترك قد يجذب الطفل".
في الوقت نفسه، ثمّة ما يتعلّق بمواقع التواصل الاجتماعيّ بالنسبة إلى الأطفال المراهقين، ومخاطرها وما إلى ذلك. بالنسبة إلى نجم، فإنّ "مواقع التواصل الاجتماعيّ هي وسيلة للاتصال بالأقران، ومن المهمّ عدم إبعادهم عن رفاقهم وعزلهم عنهم. من شأن ذلك أن يخلق مشكلات". لكنّها تحذّر: "في حال لاحظنا أنّ المراهق لا يتواصل مع رفاقه ويتفاعل معهم، بل هو يعاين صور آخرين ويشعر بالسوء تجاه نفسه، فهو غير راضٍ عن نفسه أو يشعر بأنّه بشع أو بدين على سبيل المثال، فإنّ الأمر يدلّ على مقارنة سلبيّة يلجأ إليها هذا المراهق. حينها، لا بدّ للأهل من التدخّل".
وفي السياق، يمكن الحديث عن تنمّر إلكترونيّ خطير. الأمر الذي تؤكّده نجم قائلة إنّ "موضوع التنمّر الإلكترونيّ أمر هائل، والحلّ ليس بعزل الأطفال عن أقرانهم وإبعادهم عن الشبكة، ولا يقتضي وضع قواعد صارمة جدّاً. ويأتي التواصل بين الأهل وأطفالهم مهمّاً جدّاً، حتى يتمكّن الطفل من اللجوء إلى أهله في حال وقوع أيّ حادثة أو سوء من قبيل التنمّر أو التحرّش أو الإباحيّة". تتابع أنّه "يجب على الأهل اللجوء إلى وسائل الرقابة الأبويّة. ثمّة تطبيقات خاصة في هذا المجال لمن هم دون الرابعة عشرة أو الخامسة عشرة. عندما يتخطّى الأطفال تلك السنّ، يصير ذلك أشبه بغزو/ اكتساح لخصوصيّتهم، ويخلق الأمر من ثمّ مشكلة ثقة مع أهلهم".
هل يمكن القول إنّ الخطر الأكبر لا يكمن في الشاشات، إنّما في الأهل الذين لا يعرفون كيفيّة تدبّر شؤون تلك المسألة؟ توضح نجم أنّ "هذا الأمر يشبه تماماً أيّ شيء آخر في الحياة. ولنتخيّل طفلاً يغوص بمفرده في العالم الافتراضيّ الشاسع ويواجه ما لا يتناسب وسنّه من دون رقابة أبويّة. الأمر يتعلّق بمدى تنبّه الأهل إلى المخاطر وكيفيّة إقامة عمليّة توازن ودعم ومراقبة. لا بدّ من أن يتعلّموا كيفيّة تثقيف أطفالهم والتحدّث إليهم حول الموضوع". وتشدّد على أنّ "الأمر يتعلّق بكلّ عائلة بحدّ ذاتها وبالقيم الخاصة بها وبقراراتها عموماً، ولا سيّما كيفيّة إدارة نشاطات أطفالها ومنها استخدام وسائل التواصل والشاشات".