يزداد الاهتمام بشخصية الأب (وبغيرها من الشخصيات الأساسية في البناء الداخلي للعائلة) في نتاجاتٍ سينمائية عربية مختلفة. السؤال المرتبط بعلاقة المخرج بوالده متدَاول منذ فترة. المعالجات السينمائية عديدة، تستعين غالبيتها الساحقة بالنوع الوثائقي، المفتوح ـ لبنانيًا على الأقلّ ـ على أفرادٍ آخرين، كالأم والعمّ والجدّة. أحيانًا، يذهب السينمائي إلى ذاكرته الفردية وتاريخه الشخصي، فيتوغّل فيهما بحثًا عن أشياء كثيرة يريد التنقيب فيها عن إجابات أو تفاصيل، فيلتقي ـ أثناء ذلك ـ أبًا أو أمًا أو عمًا أو جدًّا أو خالاً. الاغتسال أو السعي إلى مصالحة أو تفعيل الانقلاب، عناوين مثيرة لاشتغال وثائقي. عناوين تُفكِّك ماضياً وحاضراً، وتعيد سردهما بلغة الصورة.
في النتاج السينمائي المصري، هناك ربطٌ بين "ثورة 25 يناير" (2011) والانفتاح الوثائقي على علاقة المخرج/ المخرجة بالأب. الثورة عاملٌ مُساعد على زعزعة صورة الأب الحاكم. الزميل محمد جابر يتوسّع في الإجابة، بمعاينته النقدية تلك الحالة، متّخذًا 3 أفلام وثائقية حديثة الإنتاج أمثلة على ذلك: "جاي الزمان" (2014) لدينا حمزة، و"هدية من الماضي" (2015) لكوثر يونس، و"النسور الصغيرة" (2017) لمحمد رشاد ("العربي الجديد"، 13 إبريل/ نيسان 2018).
في لبنان، النهاية الملتبسة والمعلّقة والمعقّدة والغامضة للحرب الأهلية اللبنانية (1975 ـ 1990) سببٌ لمعاينة الذاكرة والتاريخ عبر الأهل، وسببٌ لمقاربة الذات من خلال مواجهة الأهل.
سينمائيون لبنانيون منصرفون، منذ أعوام طويلة، إلى هذا الهمّ السينمائي والإنساني والثقافي، وبعضه الكثير متعلّق بأسئلة الحرب الأهلية اللبنانية نفسها، وأحيانًا عديدة بما سبقها من مسارات وتحوّلات. بعضهم الأول منجذبٌ إلى الأب وصورته وتاريخه وحكاياته (صدامًا أو رأفةً)، كما في "هيدا لبنان" (2008) لإليان الراهب، و"كاوبوي بيروت" (2009) لداليا فتح الله، و"بيروت عالموس" (2010) لزينة صفير، و"الحوض الخامس" (2012) لسيمون الهبر. بعضهم الثاني يواجه ذاته وراهنه عبر تواصل مباشر مع أمٍّ أو عمٍّ: "سمعان بالضيعة" (2009) للهبر أيضًا (عمّ) و"يامو" (2012) لرامي نيحاوي (أم). بعضهم الثالث يذهب إلى الجدّة في رحلة إنسانية، لا تفسير لها خارج بساطة الرحلة وجمالها، كما في "يا عمري" (2016) لهادي زكّاك، مثلاً.
هذه مسائل حيوية، تتيح إمكانية ولوج بلدٍ وبيئات وحالات وأفرادٍ، تعكس شيئًا من التاريخ المرتبك، والجغرافيا المتحوّلة دائمًا، وإنْ تقلّت الإيجابيات في تحوّلاتها. أو تكتفي بالفرد ككائن بشري حي يبلغ عمرًا مديدًا، ويروي فصولاً من مسارٍ غنيّ.
الأسماء اللبنانية عديدة: بالإضافة إلى أولئك المذكورين أعلاه، هناك رين متري وأحمد غصين ورنا عيد وغيرهم. التنويع غير محصور بالشخصية الأساسية، أو بالمقاربة الأعمّ. أساليب العمل الوثائقي غير متطابقة، وإنْ تبدو المناخات العامة واحدة. الشخصية الأساسية مدخلٌ إلى أمور عديدة: الذاتي/ الشخصي أولاً، ثم تاريخ البلد وحكاياته، وذاكرة العائلة ومساراتها ومصائر أفرادها، والانقلابات المُساهِمة في تعديل معالم الاجتماع اللبناني واقتصاده وثقافته وعلاقات ناسه.
في المقابل، هناك أفلام أخرى تُقدِّم صورة معكوسة: أمهات/ آباء شبابٍ مفقودين ومخطوفين أثناء الأعوام المريرة للحرب الأهلية اللبنانية. أفلام تذهب إلى أهل الضحايا كي يرووا حكاياتهم مع أبنائهم وبناتهم الذين ابتلعتهم الحرب فاختفوا كلّيًا، لأن "تهمتهم الوحيدة أنهم أبرياء". هذا جزءٌ من تاريخ أيضًا. هذه أفلام توثِّق وجع أمهات وآباء، وقلق أمهات وآباء، وتمزّقات الروح والجسد في أمهات وآباء. السينما تحاول تأريخ حالة لبنانية يُراد لها النسيان المطلق.
بهيج حجيج تناول المسألة مرّتين: وثائقيًا في "مخطوفون" (1998)، وروائيًا في "شتّي يا دني" (2010). في الأول، لقاء مباشر مع أهالي مفقودين، يروون ألمًا وانكسارات وآمالاً معلّقة. يجلسون أمام الكاميرا حاملين ألف همّ وخيبة وتعب. ينظرون إلى العدسة، أو ربما إلى المشاهدين، أو ربما إلى لا أحد. لكنهم يذهبون وحيدين إلى عوالمهم المنغلقة على أنفسهم، كي يقولوا شيئًا عن أحبّة ضائعين. في الثاني، يتشكّل النصّ من عودة رجل إلى عائلته (زوجةٌ وشابان) بعد سنين طويلة من غيابٍ، هو فعليًا نتاج عملية خطف. العودة من جحيم الأرض قاسية، تمامًا كقسوة الغياب والخطف والانتظار. أو ربما أقسى من هذه كلّها.
الأهل يروون حكايات الأبناء. والعودة تعارفٌ بين جيلين يتصادمان بقوّة في سلمٍ أهلي معلّق ومضطرب. الشخصية الأساسية تبقى هي نفسها: أهل. لكن المعاينة مختلفة: هناك أهل يروون حكاياتهم وحكايات تاريخ وذاكرة يعرفونهما ويعيشونهما ويحاولون استعادتهما في سرد حكائي يجمع الذاتي بالعام. وهناك أهلٌ يبوحون وجعًا أمام الغياب التام لأبناء وبناتٍ يفقدون دروبهم الملوّثة بحروب وانتقامات.