الأنكى من النكاية

16 اغسطس 2015
+ الخط -
يعشق بعضُ اليساريين، وذوو التفكير الأقلّوي، التفسيرَ الاقتصادي الطبقي، لإيضاح كل شيء في دنيانا، حتى لو تكلموا عن قرية نمل تجدهم يجدّون في التقسيم الطبقي، وتفسير سلوك النمل من خلاله. والمشكل عندهم لا يكمن في قدرة النظرية الاقتصادية والطبقية على إضاءة جوانب من القضايا المطروحة، وإنما في إنكار أي نظريات أخرى. لديهم حالة إنكار غريبة ومستعصية.
لا يرون، مثلاً، في النظام السوري سوى أنه نظام طبقة مهيمنة، يدافع عن مصلحتها، وهو، نظيف وبريء من أي تصنيف آخر، أو صفة أخرى. محض نظام طبقي، وفق جدول التصنيف في رؤوسهم. هنا، تقع المشكلة، أي الإنكار وحيازة الحقيقة كلها، فإنكار أي معرفة خارج نظرية الاقتصاد والطبقية الميكانيكية لاعلمي ولاواقعي. إنه يشبه الإيمان بالخرافة، وضرره النظري على الوعي، مثل ضرره الواقعي، فظيعٌ.
آلية الإنكار هذه خطرة، وتصل، خصوصاً، إلى مصاف الجريمة في سورية. ينكر النظام أنه طائفي، وأنكر أنه عذّب أطفال درعا، وأنكر أن هناك ثورة، وأنكر أنه يقتل عشرات الألوف من السوريين تحت التعذيب، وأنكر، بدءاً، أنه يستخدم طائرات الهليوكبتر، وأنكر أنه أنزل الجيش لقمع مظاهرات سلمية، وأنكر أنه يستخدم الطائرات الحربية، وأنكر أنه يستخدم الأسلحة الكيماوية، وينكر باستمرار أنه يلقي البراميل على جزء من الشعب السوري. بينما الواقع تماماً بالعكس. في سورية، يحتفظ النظام وحده بالنسخة الأصلية للإنكار، و يوزع عنها نسخاً مصورة، يتسلمها بعض اليساريين.
ليس هذا النهج جديداً، فقد رافق تسلم حافظ أسد السلطة، وأصبح قوياً ذا أنياب في الثمانينيات، حيث اجتهد يساريون سوريون في إنكار كل شيء خارج أن النظام يدافع عن تحالف "البرجوازية وبيروقراطية الدولة".
يقود التعصب للتفسير الطبقي الاقتصادي، عادة، إلى تيبّس في الرؤوس، وإلى يقين يشبه اليقين الديني، ويتفوق عليه أحياناً. خذوا، مثلاً، ما يقوله سلامة كيلة في (العربي الجديد، 12 أغسطس/آب 2015) "استغل (النظامُ) الجهادية السلفية بكل جدارة، ولا يفعل ذلك نظام طائفي، بل نظام يدافع عن مصالح طبقة تحكم". جملةٌ ولا أوضح عن احتكار "الحقيقة(!) الطبقية" وعن آلية الإنكار. لنَضْربْ مثلاً: نظام الملالي في طهران طائفي في سلوكه ودستوره. تقول المادة الثانية عشرة في الدستور "الدين الرسمي في إيران هو الإسلام، والمذهب الجعفري الاثنا عشري. وهذه المادة تبقى إلى الأبد غير قابلة للتغيير". فهل إذا استخدمت إيران تشكيلاً طائفياً ثانياً، مثل ميشال عون وجماعته في لبنان، تكون انتفتْ عنها، هي بالذات، صفة الطائفية؟ وهل إذا استخدمت إيران يهودها في سياستها انتفت عنها الطائفية، وصارت حداثية؟ وهل إذا استخدمت حركتي الجهاد الإسلامي وحماس في استراتيجيتها ذهبت عنها الطائفية؟ عجيب. إنه التفكير الممانعاتي مطعّما بقشرة جدّ رقيقة من ماركسية عاميّة.
من أجل أن يعي سلامة، ولسلامةِ النظرية الطبقية الاقتصادية من الفهم العامّي، وليَكُفّ عن الجزم اليقيني "بل (هو) نظام يدافع عن مصالح طبقة تحكم": لنفترضْ أن النازية وهتلر "دافعوا عن مصالح طبقة الحكم (وفق تعبير سلامة)"، وأنهم بدأوا الحرب العالمية الثانية دفاعاً عن هذه المصالح، واحتلوا أوروبا وجزءاً من روسيا. ثم بدأت الجيوش الألمانية "المدافعة عن مصلحة طبقة الحكم" تخسر. خسرت كل أوروبا، وتدمّرت المصالح الألمانية، ودخلت جيوش الحلفاء من كل صوب، ولم يبق مصالح لطبقة الحكم، زالتْ أنفنتْ. مع ذلك، ظل النازيون وهتلر يحاربون، حتى دخل الروس الرايخ. لمَ لمْ يتوقف النازيون عندما دُمّرتْ مصالح طبقة الحكم وفنيتْ؟ يبدو أن هناك شيئاً مهماً وكبيراً إضافة إلى المصالح، أليس كذلك؟ والنظام السوري مثل النازية، الطائفية فيه عميقة وأصيلة، وستدافع عن نفسها حتى النهاية. لا يمكن أبداً وعي فكر النظام وسلوكه بالنظرية الطبقية الاقتصادية الميكانيكية.
وأخيراً يُورد كيلةُ: "الرد (ردي) مبني على عدم فهم ومعرفة، ويوصل إلى أنني أدافع عن النظام السوري، ومؤيد للنظام العراقي، هل هناك أعمى من ذلك؟" هذا خداع للقارئ الذي ربما فاته قراءة ردّي. لا وجود لأي كلام في ردّي يوحي بأنني أتهمه بأنه موالٍ للنظام العراقي أبداً.