الأمن الذاتي في لبنان: عودة إلى إرث الحرب الأهلية

13 أكتوبر 2014
مسلح في مدينة طرابلس، شمالي لبنان (حسين بيضون)
+ الخط -

كل شيء في لبنان عبارة عن وجهة نظر. من شكل النظام السياسي والكيان إلى الموقف من تسليح الجيش ودوره. بين هذا وذاك، يأتي الأمن الذاتي كتعبير عن غياب التوافق والقناعة بنهائية الكيان من جهة، وسلطة الدولة والقانون، كناظم للعلاقات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. منذ منتصف العام 2013، وبروز خطر تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) على الكيانات الوطنية، والجماعات الدينية في هذه الكيانات، خرجت أصوات تنادي بالأمن الذاتي إلى العلن في لبنان.

في المحصلة، وبعد أشهُر على ممارسات هذا التنظيم، ووصول مقاتليه إلى الحدود اللبنانية ــ السورية، والاشتباك مع الجيش اللبناني مرة، وحزب الله مرات عدة، صار الأمن الذاتي واقعاً معيشاً، ولم يعد الأمر سرّاً تخجل به الجماعات اللبنانيّة المختلفة. لكن هذا لا يُلغي أن الأمن الذاتي لم يختفِ عن الساحة اللبنانيّة، منذ سيطرة المليشيات خلال الحرب الأهلية (1975 ــ 1990). غاب الأمن الذاتي قليلاً عن الأنظار، من دون أن تُفكّك منظومته، ثم عاد لاعباً قويّاً على الساحة اللبنانيّة منذ اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري.

لم يكن الإعلان عن تفكيك المليشيات حقيقة كاملة. معظم القوى الحزبية، ما عدا تلك التي خرجت مهزومة من الحرب، حافظت على سلاحها في المخازن، بمعرفة السلطة السياسيّة والأمنيّة اللبنانيّة والسوريّة. ومشاهد إطلاق النار بغزارة بعد كل جولة انتخابات تؤكد هذا الأمر. بعد اغتيال الحريري عام 2005، عاد هذا السلاح إلى الظهور في سلسلة أحداث توّجتها المعركة العسكرية التي فرضها حزب الله على بيروت في مايو/أيار 2008.

أثبتت هذه الأحداث أن فريق الثامن من آذار، بمختلف قواه، يملك مليشيات تترواح قوتها ومدى انتشارها من حيّ في بيروت إلى مدن ومحافظات لبنانية. لكن أبرز تلك القوى، هي حزب الله، والجهاز الرديف له، "سرايا المقاومة"، الذي تم تعزيز قوته وانتشاره منذ عام 2007، ليصل حاليّاً إلى أقوى مستوياته. ويلي ذلك "حركة أمل"، التي تملك السلاح التقليدي للمليشيات من سلاح فردي ومتوسط، إلى العناصر المدربة، أكان ذلك من فترة الحرب الأهليّة أو عبر حضورها في بعض المؤسّسات الرسميّة اللبنانيّة. وما الصورة الشهيرة لأحد عناصر الأمن اللبناني في ثيابه الرسمية مقاتلاً إلى جانب مسلحي حركة "أمل" إلا دليلاً على ذلك. ويحلّ في المرتبة الثالثة، الحزب القومي السوري الاجتماعي، وهو إطار منظم وينتشر في مناطق مختلفة من شمال لبنان إلى جنوبه، ويتميّز بقدرته على القيام بالعمل الأمني إلى جانب العسكري. ويوجد عدد آخر من القوى والشخصيات المحلية التي تدير مجموعات صغيرة من المسلحين.

اشتباكات مايو/أيار 2008
في المقابل، أظهرت اشتباكات مايو/أيار 2008، أن تيار المستقبل سعى إلى إنشاء مليشيا، وهو الحزب الذي لم يشارك عملياً في الحرب الأهلية. وقد استعان "المستقبل" بعسكريين وأمنيين متقاعدين من الأجهزة الرسمية اللبنانية للقيام بهذه المهمة، لكن هذه الأحداث أثبتت فشل "المستقبل" في إنشاء هذه المليشيا أو أنها لم تكن جاهزة بعد. واعتمد "المستقبل" في الفترات اللاحقة على دعم مجموعات محليّة، تحمل السلاح وخصوصاً في طرابلس، شمالي لبنان.

في المقابل، حافظ الحزب التقدمي الاشتراكي برئاسة النائب وليد جنبلاط، على جزء من بنيته العسكرية والأمنية التي بناها في الحرب الأهلية، إلى جانب امتلاكه السلاح المناسب لهذا النوع من العمل، لكن قرار جنبلاط بعدم الدخول في المعارك واتجاهه إلى التسوية، واقتصار الأمر على مبادرات من قيادات محلية وعدد من رجال الدين، لم يُظهر المستوى المفترض لقوة هذه المجموعة.

في موازاة ذلك، بدا "التيار الوطني الحرّ" و"القوات اللبنانيّة" غائبين عن ساحة العمل العسكري في أحداث مايو/أيار. فالتيار الوطني الحرّ لا يملك جذوراً من الحرب الأهلية، وإرثاً مليشيوياً، إذ خاض رئيس التيار الوطني الحر، النائب ميشال عون، المعارك بصفته قائداً للجيش اللبناني حينها. أمّا القوات اللبنانيّة، التي يرأسها سمير جعجع، فكلّ التقارير الصحافية التي نشرت عن تلك المرحلة (مايو 2008)، ربطت معاركها بأعمال ذات طابع أمني أكثر منها عسكرية. وقد يكون هذا الأمر منطقيّاً، إذ أن السلطة السياسيّة والأمنية التي أدارت البلاد بعد الحرب الأهليّة، تعاطت مع عون وجعجع كمهزومين، فنفت الأول وسجنت الثاني، وضربت البنيان التنظيمي لمناصري الطرفين.

ترافق بقاء قدرات المليشيات على حالها، ولو في صيغة مجمّدة، مع إدارة سياسيّة حمتها. لم يكن ممكناً محاسبة أي فاسد انتمى إلى هذا الفريق أو ذاك، إلا إذا رفع زعيم الطائفة الغطاء عنه، وإلا اعتبر الأمر اعتداءً على الطائفة برمّتها. تكرس منطق الولاء للطائفة على حساب الدولة، وباتت الطائفة هي الجهاز الحامي لا الدولة، وأصبحت العلاقة مع المؤسسات الرسمية مرتبطة بالمرور بالمليشيات بشكلٍ ملزم، بدءاً من أتفه الأمور إلى أكثرها تعقيداً.


الخوف من "الغرباء"

ينبع الأمن الذاتي اليوم من شعور الجماعات اللبنانيّة بالخوف، وبأنّ الدولة وأجهزتها غير قادرة على حمايتها. وفي الوقت عينه، يؤدي انتشار الأمن الذاتي، إلى ضرب ما تبقّى من سلطة لأجهزة الدولة هذه. يشعر المسيحيون والدروز والشيعة، أنّ الجماعات المتشددة في سورية، والتي يعتقدون أنها باتت موجودة في لبنان، تنتظر الفرصة للقيام بإبادة جماعية في حقهم. يتغذى هذا الشعور بشكلٍ كبير مما حصل في العراق، في حق المسيحيين والأيزيديين، وما يجري في سورية في حق الأكراد. كما تغذى هذا الشعور من تعبئة سياسية ومذهبية مارسها فريق الثامن من آذار، بمختلف مكوناته. وجاءت موجة السيارات المفخخة التي طالت لبنان منذ يوليو/تموز 2013 لتزيد من هذا الخوف، خصوصاً أن هذه التفجيرات بلغت ذروتها في ضاحية بيروت الجنوبية، ذات الغالبية الشيعية.

ويرتفع منسوب الخوف هذا في قرى الحدود مع سورية، خصوصاً القرى غير السنية، إذ عاش هؤلاء فترة على وقع أصوات الانفجارات التي تأتيهم من الداخل السوري لفترة طويلة، ثم على وقع الصواريخ العشوائية التي طالت بلدات عدة في البقاع الشمالي، خصوصاً بلدة اللبوة.

اللاجئون السوريون: البعبع الدائم

لا يقتصر الخوف على من يُمكن أن يأتي من خلف الحدود، بل يطال الأمر اللاجئين السوريين في لبنان، الذين تراهم العديد من القوى السياسيّة "قنبلة موقوتة" و"إرهابيين متنقلين". وقد أعلن وزير الخارجية اللبناني، جبران باسيل، مراراً أن "لبنان مهدد اليوم وفي خطر، مع وجود أكثر من ثلث المقيمين فيه من النازحين"، فيما قال وزير الشؤون الاجتماعية، رشيد درباس، في تصريحات صحافية، إنّه "من بين مليون ومائتي ألف نازح سوري في لبنان قد يكون هناك مائة ألف شاب أدوا خدمتهم العسكرية، وإذا وصل السلاح إلى أيديهم يعنى أنهم سيصبحون أقوى من الجيش اللبناني". وفي الإطار ذاته، لفت النائب في كتلة تيار المستقبل، عاطف مجدلاني، في مجلس النواب، إلى أنّ اللاجئين السوريين "خطر فعلي وحقيقي على المجتمع ولبنان. وربما إذا أردنا الذهاب إلى الأقصى، فهو خطر وجودي". وعليه، لا يقتصر التحذير من "خطر اللاجئين السوريين" على جهة سياسيّة واحدة، بل يشمل القوى كافة، من دون أن يدفعها ذلك إلى وضع خطة وطنية لإدارة ملف اللاجئين والحدّ من خطورته.

من هنا، عادت ظاهرة الأمن الذاتي إلى الانتشار بشكلها السافر، وترافقت مع حملات إعلامية داعمة لهذا الخيار. في الجنوب على سبيل المثال، يقوم شبان تابعون لحركة أمل وحزب الله، بتنظيم جولات حراسة وحواجز ليليّة ومداهمات لأماكن وجود السوريين، إضافة إلى جمع المعلومات عن هؤلاء. ويقول شبان يُشاركون في هذه الأعمال لـ"العربي الجديد"، إنهم يتواصلون مع الأجهزة الرسمية للدولة اللبنانيّة "ونحن نسُلّمهم أي معتقل نشتبه به". أمّا في الضاحية الجنوبية لبيروت، فقد نالت هذه الأعمال غطاء اتحاد بلديات الضاحية الجنوبية. وقد قُسّمت الضاحية إلى مربعات أمنية يتولّى الجيش اللبناني ضبط حدودها، فيما تتولّى القوى الحزبيّة عملية ضبط أمنها الداخلي.

وينطبق الأمر عينه على أماكن وجود حزب الله وحركة أمل في البقاع الغربي والشمالي وفي بعض أحياء بيروت، وإن كانت الأساليب وسطوة هذه القوى، تختلف بين العاصمة والأطراف، وهي تبدو بنسب ضئيلة في بيروت، حيث تُحافظ السلطة الرسمية على بعض من قوتها، في حين تتراجع هذه القوة في الأطراف لمصلحة الأطر الحزبية.

بدوره، يقوم الحزب التقدمي الاشتراكي "بضبط" الوضع الأمني في مناطق وجوده، وإن كان قرار الحزب العلني يقضي برفض الأمن الذاتي. لكن الواقع على الأرض يُشير إلى أن رغبة مناصريه في مكان آخر، وهو ما دفع الاشتراكيين إلى اللجوء لغطاء البلديات واتحاد البلديات لممارسة الأمن الذاتي.

أما في الشريط الحدودي في البقاع، فتسير مختلف القوى في اتجاه الأمن الذاتي، سواء في القرى الشيعيّة أو المسيحيّة. وأخيراً، بدأت الأصوات ترتفع في القرى السنية، وعرسال النموذج الأبرز في الدعوة إلى الأمن الذاتي. ويقول مسؤولون في تيار المستقبل في منطقة البقاع، إنّ شباناً من عرسال يُطالبون بتنظيم مجموعة من نحو 200 شاب من أبناء البلدة، يتولون حراسة حدودها إلى جانب الجيش اللبناني.

يُكرر العديد من المسؤولين المحليين في مناطق مختلفة من لبنان، خصوصاً مناطق البقاع، أنّ الناس تُطالبهم بالقيام بدور مساند للأجهزة الرسمية اللبنانيّة، التي يشعرون بعدم قدرتها على تأمين الحماية اللازمة لهم. لكن هذا المنطق، وإن كان شعور الخوف مبرراً، يؤدي إلى مزيد من إضعاف الدولة وسلطتها. وعليه يدخل لبنان في دوامة، لا تنتهي إلا بمزيد من العنف.

ويبدو أنّ الأسئلة التي تطرح نفسها وبجدية في حالة الأمن الذاتي لا إجابات عنها. فماذا لو اشتبه أحد الشبان المناوبين على حدود إحدى البلدات، وقام بإطلاق النار على من اشتبه به، وتبيّن أنّ الضحية بريء؟ هل يُعاقب مطلق النار، كعسكري أخطأ، أم كمدني اقترف جريمة؟ ومن يمنع تحوّل هذا المنطق إلى حالات انتقام وتصفية حسابات، عائلية وسياسيّة ومناطقية؟