الأمطار تَفضح المَستور
شهد المغرب سقوط أمطار استثنائية، لم تشهدها البلاد منذ عقود، وصلت، في بعض المدن، إلى 200 ملمتر في اليوم الواحد، مصحوبة بقوة رياح تجاوزت 90 كيلومتراً في الساعة، تشكل أزيد من المعدل السنوي من الأمطار، خلّفت سيولاً وفيضانات تسببت في قطع أكثر من 30 طريقاً في وجه المواطنين، وغَمْر 500 قنطرة بالمياه، بينها 300 قنطرة آيلة للسقوط، تَتَهدد المارين منها في حالات الوزن الزائد والكوارث، تحتاج إلى حوالي 950 مليون درهم، كلفة تقديرية للإصلاح.
كما كبدت التساقطات المطرية عدة مدن خسائر مادية فادحة، وأسهمت في اقتلاع الأشجار وحوادث سير، فيما بلغت حصيلة المساحات الفلاحية المتضررة أكثر من 140 ألف هكتار، وانهيار 20 ألف منزل، وأوقفت حوالي 100 ألف تلميذ عن الدراسة، من دون الحديث عن الأشخاص من دون مأوى، ونفوق مئات آلاف من رؤوس الماشية، وضياع كمية كبيرة من الأمتعة والأجهزة المنزلية، كما كان لها الأثر الكبير على منشآت إنتاج الماء الصالح للشرب، التابع للمكتب الوطني للكهرباء والماء الصالح للشرب، بسبب ارتفاع نسبة الأوحال وانقطاع الكهرباء وخطوط الإنترنت السلكية واللاسلكية في بعض المدن. أما سكان البوادي والمناطق الجبلية، فقد كانوا أكثر المناطق معاناة، حيث حاصرتهم الثلوج، وسدت الطرق أمامهم، وتوقف أبناؤهم عن متابعة الدراسة، وحتى الأسواق الأسبوعية التي يَفدون إليها لشراء ما يحتاجون إليه من مواد غذائية، أصبح الوصول إليها مستحيلا، كما وثقت الكثير من أشرطة الموت على مواقع التواصل الاجتماعي الخسائر ومشاهد الرعب الذي عاشه الضحايا، قبل أن يقضوا، بعد أن ظلوا عالقين بالأودية ساعات، أو جرفتهم وديان صُنّفت رسمياً نائمة وشبه جافة، فضلاً عن انهيار المنازل المشيدة من التراب والحجارة، وتسرب المياه إلى قاعات دراسية عديدة، وتوقيف الرحلات البحرية بين المغرب وإسبانيا. كما تناقل "فيسبوكيون" صورة مأساوية لنقل جثامين قتلى فيضانات الأحد الأسود في كلميم في شاحنة قمامة!
انتظر المغاربة سقوط الأمطار بشغف كبير، وأدّوا صلاة الاستسقاء، حتى يسقي الله عباده وبهيمته ويروي أرضه، غير أن نزول كمية كبيرة من التساقطات جعل شوارع مُدننا تتحول إلى بحيرات مائية، ودفع مواطنين مغاربة عديدين إلى قراءة اللطيف حتى الصباح الباكر، خصوصاً أن السلطات المحلية ومصالح الوقاية المدنية تأخرت في تقديم المساعدة للضحايا، على الرغم من النداءات المتكررة، بعد أن غمرت مياه الأمطار والأنهار والأودية الأحياء والأزقة والشوارع الرئيسية والدور السكنية حتى الرُّكب، حيث عاشت مجموعة من المناطق في عزلة شبه تامة لأيام، نتيجة اجتياح مياه الأمطار للبيوت ومحاصرة الأزقة والشوارع، ما أدى ببعض الساكنة إلى قضاء ليلتهم في العراء، بسبب عدم استيعاب قنوات الصرف الصحي للأمطار المتهاطلة، وتقصير المسؤولين في توفير ما يلزم من مشاريع تنمية وتطوير، بعد أن جعلوا وظيفتهم تقتصر على مُجرد جباية الفواتير من المواطنين، وتركوا المواطنين وجهاً لوجه أمام السيول الجارفة، وارتفاع منسوب قنوات الصرف الصحي والبالوعات التي انفجرت بفعل قوة المياه داخل المجاري، حيث فاضت في الأزقة والشوارع وداخل بيوت الغلابى.
وإذا كان الإيطاليون يفخرون بـ"فينيسيا" مدينتهم العائمة، فحقنا أن نفخر بمدننا العائمة، وفي ظل غياب المسؤولين لحل مشكلات مجاري المياه، تولى المواطن المغربي أمره بنفسه. وفي هذا الإطار، ظهرت شخصية علال "القادوس"، مع التساقطات المطرية الأولى التي هزت بلادنا، حيث تحول علال إلى "سوبرمان"، أو "البطل المغوار" الذي لا يشق له غبار.
ويبدو أن الأمطار الأخيرة، وإن كانت سَتُنْبث الزرع والعُشب، فإنها تحولت ببلادنا بمثابة المراقب الفعال لأعمال طالما امتدحها بعضهم، مثل القناطر التي سقطت مع التساقطات الأولى، بينما قناطر الاستعمار صامدة حتى الآن، فضلاً عن انجراف شوارع حديثة عديدة، فكلما نزلت أمطار الخير انكشف المستور وتعرى المطمور، وانفتحت الحُفر، وانجرف ما كان من تراب وزفت قدرته بعض المجالس، وجعلته ضمن إنجازاتها الخالدة التي تتفاخر بها، بمناسبة أو بدونها. كما كشفت الأمطار الأخيرة عن أخطاء التوسع العمراني الذي يزحف على مجال الأنهار والأودية، وعدم مراعاة المجاري الطبيعية للوديان في تصاميم التهيئة، وعدم احترام مسافة الأمان من الأنهار، وغض الطرف عن ظاهرة البناء العشوائي. كما أظهرت الفيضانات ضعف البنية التحتية، وبدائية الإمكانات الموضوعة رهن إشارة الوقاية المدنية.
الأمطار الأخيرة في المغرب أفضل بكثير من كل لجان التفتيش التي زارت مدننا منذ عقود، لأنها عرّت واقع البنية التحتية الهشة، وشبكة الصرف الصحي المخنوقة، وقناطرنا الآيلة للسقوط. إنه سيناريو يتكرر، في كل سنة مطيرة، نتيجة الفساد والتهاون والتقصير في تدبير مرافق حيوية عديدة، لأن المسؤولين لم يستفيدوا من دروس السنوات الماضية، الشيء الذي جعل ساكنة المدن المتضررة تحمل المسؤولية للدولة والسلطات المحلية، مطالبة بالتعويض عن الخسائر والأضرار التي لحقت المواطنين. فهل ستتخذ الجهات المسؤولة الاحتياطات اللازمة، أم أن دار لقمان باقية على حالها، وأن مُدننا ستسبح مُجدداً في بحر التساقطات المقبلة، ويترك المواطنون المغاربة بين مطرقة مياه الأمطار وسندان تدبر الكارثة بأنفسهم عند انفجار قنوات الصرف الصحي وفيضانات الأنهار والأودية؟