03 اغسطس 2022
الأكراد.. تقرير المصير والعسف القومي
سجال قديم متجدد لا بد من خوض غماره. أثار قرار إقليم كردستان العراق إجراء استفتاء بشأن حق الشعب الكردي في إقامة دولة كردية مستقلة جدلا واسعا ونقاشا مفتوحا على عدد من الاحتمالات والاعتبارات، طابعها الغالب معارضٌ هذا الخيار. الحكومة العراقية أولا، وثم تحديدا تركيا وإيران، يتوعدون بمحاصرة الإقليم براً وجواً، فيما هو يفتقر إلى منفذ بحري. وهذا يعني عزلة كاملة. ويذهب الرئيس التركي أردوغان إلى أبعد من ذلك، مهددا بالتدخل العسكري، غير أن الولايات المتحدة، والتي كانت قد حذرت القيادة الكردية من تنظيم الاستفتاء، حذرت أمس من أي عمل عسكري ضد كردستان، ونصحت دول الجوار بسلوك طريق الحوار. هل هذا يعني أن واشنطن تشجع الانفصال؟
باتت القضية، في مطلق الأحوال، جزءا متشابكا من صراع القوى الإقليمية والدولية. لا شك أن الاستفتاء الذي لم يكن من شك في نتيجته لصالح الانفصال-الاستقلال، قد أرعب أنقرة وطهران خوفا من أن تمتد عدوى الانفصال إلى أكراد البلدين. ولذلك، قيادة إقليم كردستان مجبرة على فتح حوار مع بغداد، محاولة الاستفادة من قوة الاستفتاء وثقله على طاولة التفاوض.
ليست هذه المرة الأولى التي يحاول فيها الأكراد فرض خيارهم الاستقلالي، فالمسألة عمرها على الأرجح من عمر الدول العربية القائمة، أي ما يقارب المئة سنة. يبلغ عدد الأكراد اليوم نحو 35 مليونا، وهم موزعون على أربع دول، هي تركيا، التي تضم أكثر من الثلث، والعراق وإيران وسورية، وبعضهم القليل في أرمينيا ولبنان والأردن. مرت المسألة الكردية في محطات متعدّدة ومريرة، بدءا من معاهدة سيفر عام 1921 التي دغدغت أحلام الأكراد بالاستقلال، عاد وقضى عليها اتفاق لوزان عام 1923 بضغط من كمال أتاتورك وبريطانيا، كل من موقعه وحساباته القومية-السلطوية والجيوبوليتيكية. وفي 1945 قارب الملا مصطفى البارزاني الحلم بإعلان "جمهورية مهاباد" الكردية في إيران بدعم سوفييتي. ولكن سرعان ما انقضت عليه إيران، وأنهت التجربة التي لم تعمر أكثر من سنة، واضطر الملا إلى اللجوء إلى
موسكو. ثم كانت محاولة عبد الكريم قاسم غير الجدية عام 1958 لإعطاء بعض الحقوق، تبعها في 1970 اتفاق بين البارزاني والنظام "البعثي" بمنح الأكراد الحكم الذاتي. خطوة متقدمة بدون شك، غير أن صدام حسين سرعان ما انقلب بعد أربع سنوات على الاتفاق.
محاولات راوحت إذا بين المغامرة والصدّ العصبوي.. بين توق الأكراد إلى إثبات هويتهم وتحقيق الذات وتعنت سلطات الحكم "القومية"، أكانت العربية أم التركية أم الفارسية على السواء! الجميع بدون استثناء، وبغض النظر عن سلطات وأنظمة الحكم التي تعاقبت على مدى ثمانين عاما، تعاطى بانغلاق تام، معتبرا أن حق تقرير المصير، سواء كان دولة مستقلة أو حكما ذاتيا أو شكلا من أشكال الفيدرالية، يشكل تهديدا للقوميات الثلاث، ولوحدة دولها الكيانية والجغرافية، وتحديدا العربية منها.
ففي تركيا، حيث يفوق عددهم 15 مليونا (ربع عدد السكان)، جميع الذين تعاقبوا على الحكم من أتاتورك حتى أردوغان اليوم رفضوا الاعتراف بالأكراد شعبا، وأنكروا عليه حقوقه الدنيا، حتى حقه في استعمال لغته وثقافته وممارسة طقوسه وعاداته. وكذلك فعلت إيران الشاه، وهكذا تفعل إيران الملالي بنحو خمسة ملايين كردي، قتل منهم في آخر انتفاضة عام 1980 عشرة آلاف شخص. وفي 1989، اغتالت المخابرات الإيرانية زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني، عبد الرحمن قاسملو.
ولم تكن أنظمة الحكم القومية العربية والعروبية أرحم من التركية الطورانية والفارسية الثيوقراطية، ففي عام 1988، وخلال حربه مع إيران، ارتكب صدام حسين مجزرة بضرب أكراد العراق (نحو 6 ملايين) في مدينة حلبجة بالسلاح الكيميائي. وكانت الحصيلة 5500 قتيل و10 آلاف مصاب. ولا يقل النظام "البعثي" في سورية قمعا عن توأمه في العراق، إذ لا يحق للأكراد السوريين (نحو 2.5 مليون) استخدام اللغة الكردية في المدارس السورية، ولا يسمح لهم بتعلم لغتهم أو إنشاء مدارس للغة الكردية، ويحظر نشر الكتب أو المجلات باللغة الكردية. وعام 2004 قمع النظام انتفاضة القامشلي، شمال سورية التي ذهب ضحيتها نحو 50 قتيلا، واعتقل نحو خمسة آلاف كردي، تمت لاحقا تصفية معظمهم في السجون.
وإذا كان القصد الحفاظ على الوحدة العربية، فهي غير موجودة أساسا، لا سياسيا ولا دولتيا ولا جغرافيا، فالجميع يتلطى وراء شعار الوحدة، غير أن الخلافات والصدامات بين الدول وأنظمة الحكم العربية نفسها هي أشبه بلازمة ترافق عمر هذه الدول. ولكن، عندما يتعلق الأمر بحقوق ومصير شعب بكامله ينتمي إلى قومية أخرى، يصطف الجميع في خندق واحد، وتلتقي القوميات الثلاث على محاربة الأكراد. ألم يسع العرب للتخلص من نير الحكم العثماني، بحجة أنهم عرب ينتمون إلى قومية واحدة، فلماذا يريدون أن يقهروا قومية أخرى؟ وكيف لقوميةٍ من أصول هندو-أوروبية أن تنضوي تحت حكم قومية أخرى، لا تشاركها الهموم والتطلعات والأهداف والمصالح؟ قومية تريد أن تحقق ذاتها، وتحكم نفسها بنفسها. ألم يسع العرب، وما زالوا، أقله في الظاهر، إلى الوحدة العربية، وبعضهم ما زال يلعن إلى اليوم اتفاقية "سايكس-بيكو" التي يعتبر أنها قسمت العرب وجزأتهم إلى كيانات مصطنعة. فلماذا إذا لا يحق للأكراد، الموزعين والمشتتين في دول مجاورة وذات حدود مشتركة، أن يتوحدوا شعبا واحدا ينتمي إلى قومية واحدة في دولة واحدة؟ تماما كما يريد، وما زال يسعى ويحلم عرب كثيرون، إلى قيام دولة الوحدة العربية، بحجة أنهم قوم واحد وتاريخ واحد وثقافة واحدة.
يعزو بعضهم هذا الإجحاف التاريخي بحق الأكراد إلى لعبة الأمم ومصالح الدول الكبرى، منذ
نهاية الحرب العالمية الأولى، وتقاسم تركة "الرجل المريض" (الامبراطورية العثمانية). قسم الإنكليز والفرنسيون المشرق والجزيرة العربية مناطق نفوذ ودولا، عملا بمبدأ "فرّق تسد" وتستغل بشكل أفضل. المسألة إذا هي مسألة حسابات سياسية، واعتبارات سلطوية، ومصالح اقتصادية، وأدوار إقليمية أوسع من حدود البلد. فلماذا إذا تغالي الدول القائمة اليوم باستقلالها، وتدافع عن كيانيتها، على الرغم من خطابها الشعبوي المتبجح والمتغني بوحدة الأمة العربية. وكم من مشروع وحدة بين بلدين عربيين أو أكثر فشل بعد إعلانه بفترة قصيرة، بين مصر وسورية، أو بين سورية والعراق، أو بين مصر وسورية وليبيا... فكيف يمكن، إذن، تحقيق توحيد الدول العربية تحت راية "القومية العربية" ووحدة التاريخ والجغرافيا؟ وإذا كان من سابع المستحيلات أن توحد باسم القومية العربية كل الدول العربية، فكم بالأحرى التوحد مع شعب آخر ينتمي إلى قومية أخرى؟
لماذا على شعب غير عربي أن يعيش وينضبط تحت حكم يجاهر ويتباهى بقوميته العربية، طالما أن السائد والمطروح هو نمط حكم لأكثرية من قومية معينة، تريد أن تهيمن على "أقلية" من قومية أخرى، وتريد في بعض الحالات صهرها. ناهيك عن أن أنظمة الحكم العربية لم تقدم يوما نموذج حكم ديموقراطي تعدّدي يحترم حرية الآخر، وحقوقه وتطلعاته، وهو المختلف قوميا وعرقيا ودينيا!
باتت القضية، في مطلق الأحوال، جزءا متشابكا من صراع القوى الإقليمية والدولية. لا شك أن الاستفتاء الذي لم يكن من شك في نتيجته لصالح الانفصال-الاستقلال، قد أرعب أنقرة وطهران خوفا من أن تمتد عدوى الانفصال إلى أكراد البلدين. ولذلك، قيادة إقليم كردستان مجبرة على فتح حوار مع بغداد، محاولة الاستفادة من قوة الاستفتاء وثقله على طاولة التفاوض.
ليست هذه المرة الأولى التي يحاول فيها الأكراد فرض خيارهم الاستقلالي، فالمسألة عمرها على الأرجح من عمر الدول العربية القائمة، أي ما يقارب المئة سنة. يبلغ عدد الأكراد اليوم نحو 35 مليونا، وهم موزعون على أربع دول، هي تركيا، التي تضم أكثر من الثلث، والعراق وإيران وسورية، وبعضهم القليل في أرمينيا ولبنان والأردن. مرت المسألة الكردية في محطات متعدّدة ومريرة، بدءا من معاهدة سيفر عام 1921 التي دغدغت أحلام الأكراد بالاستقلال، عاد وقضى عليها اتفاق لوزان عام 1923 بضغط من كمال أتاتورك وبريطانيا، كل من موقعه وحساباته القومية-السلطوية والجيوبوليتيكية. وفي 1945 قارب الملا مصطفى البارزاني الحلم بإعلان "جمهورية مهاباد" الكردية في إيران بدعم سوفييتي. ولكن سرعان ما انقضت عليه إيران، وأنهت التجربة التي لم تعمر أكثر من سنة، واضطر الملا إلى اللجوء إلى
محاولات راوحت إذا بين المغامرة والصدّ العصبوي.. بين توق الأكراد إلى إثبات هويتهم وتحقيق الذات وتعنت سلطات الحكم "القومية"، أكانت العربية أم التركية أم الفارسية على السواء! الجميع بدون استثناء، وبغض النظر عن سلطات وأنظمة الحكم التي تعاقبت على مدى ثمانين عاما، تعاطى بانغلاق تام، معتبرا أن حق تقرير المصير، سواء كان دولة مستقلة أو حكما ذاتيا أو شكلا من أشكال الفيدرالية، يشكل تهديدا للقوميات الثلاث، ولوحدة دولها الكيانية والجغرافية، وتحديدا العربية منها.
ففي تركيا، حيث يفوق عددهم 15 مليونا (ربع عدد السكان)، جميع الذين تعاقبوا على الحكم من أتاتورك حتى أردوغان اليوم رفضوا الاعتراف بالأكراد شعبا، وأنكروا عليه حقوقه الدنيا، حتى حقه في استعمال لغته وثقافته وممارسة طقوسه وعاداته. وكذلك فعلت إيران الشاه، وهكذا تفعل إيران الملالي بنحو خمسة ملايين كردي، قتل منهم في آخر انتفاضة عام 1980 عشرة آلاف شخص. وفي 1989، اغتالت المخابرات الإيرانية زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني، عبد الرحمن قاسملو.
ولم تكن أنظمة الحكم القومية العربية والعروبية أرحم من التركية الطورانية والفارسية الثيوقراطية، ففي عام 1988، وخلال حربه مع إيران، ارتكب صدام حسين مجزرة بضرب أكراد العراق (نحو 6 ملايين) في مدينة حلبجة بالسلاح الكيميائي. وكانت الحصيلة 5500 قتيل و10 آلاف مصاب. ولا يقل النظام "البعثي" في سورية قمعا عن توأمه في العراق، إذ لا يحق للأكراد السوريين (نحو 2.5 مليون) استخدام اللغة الكردية في المدارس السورية، ولا يسمح لهم بتعلم لغتهم أو إنشاء مدارس للغة الكردية، ويحظر نشر الكتب أو المجلات باللغة الكردية. وعام 2004 قمع النظام انتفاضة القامشلي، شمال سورية التي ذهب ضحيتها نحو 50 قتيلا، واعتقل نحو خمسة آلاف كردي، تمت لاحقا تصفية معظمهم في السجون.
وإذا كان القصد الحفاظ على الوحدة العربية، فهي غير موجودة أساسا، لا سياسيا ولا دولتيا ولا جغرافيا، فالجميع يتلطى وراء شعار الوحدة، غير أن الخلافات والصدامات بين الدول وأنظمة الحكم العربية نفسها هي أشبه بلازمة ترافق عمر هذه الدول. ولكن، عندما يتعلق الأمر بحقوق ومصير شعب بكامله ينتمي إلى قومية أخرى، يصطف الجميع في خندق واحد، وتلتقي القوميات الثلاث على محاربة الأكراد. ألم يسع العرب للتخلص من نير الحكم العثماني، بحجة أنهم عرب ينتمون إلى قومية واحدة، فلماذا يريدون أن يقهروا قومية أخرى؟ وكيف لقوميةٍ من أصول هندو-أوروبية أن تنضوي تحت حكم قومية أخرى، لا تشاركها الهموم والتطلعات والأهداف والمصالح؟ قومية تريد أن تحقق ذاتها، وتحكم نفسها بنفسها. ألم يسع العرب، وما زالوا، أقله في الظاهر، إلى الوحدة العربية، وبعضهم ما زال يلعن إلى اليوم اتفاقية "سايكس-بيكو" التي يعتبر أنها قسمت العرب وجزأتهم إلى كيانات مصطنعة. فلماذا إذا لا يحق للأكراد، الموزعين والمشتتين في دول مجاورة وذات حدود مشتركة، أن يتوحدوا شعبا واحدا ينتمي إلى قومية واحدة في دولة واحدة؟ تماما كما يريد، وما زال يسعى ويحلم عرب كثيرون، إلى قيام دولة الوحدة العربية، بحجة أنهم قوم واحد وتاريخ واحد وثقافة واحدة.
يعزو بعضهم هذا الإجحاف التاريخي بحق الأكراد إلى لعبة الأمم ومصالح الدول الكبرى، منذ
لماذا على شعب غير عربي أن يعيش وينضبط تحت حكم يجاهر ويتباهى بقوميته العربية، طالما أن السائد والمطروح هو نمط حكم لأكثرية من قومية معينة، تريد أن تهيمن على "أقلية" من قومية أخرى، وتريد في بعض الحالات صهرها. ناهيك عن أن أنظمة الحكم العربية لم تقدم يوما نموذج حكم ديموقراطي تعدّدي يحترم حرية الآخر، وحقوقه وتطلعاته، وهو المختلف قوميا وعرقيا ودينيا!