الأقليات والخارج

09 يونيو 2015
+ الخط -
مع تزايد المواجهة الإيرانية السعودية حدة وتصعيداً، تزداد عواملُها المذهبية جلاءً ونصوعاً، إيران بدعم فني وعسكري ومالي، وحتى بشري، لوكلائها في ‏سورية ولبنان واليمن.. والسعودية تردُّ بمساندة برية مباشرة في البحرين، ‏وهجوم جوي على مواقع الحوثيين في اليمن، ومساعدة بعض فصائل ‏المعارضة في سورية. ‏ 
يفرض العنوان السني الشيعي نفسه على كامل السيناريو، ويغذّي أسماء ‏الدول الداعمة الرئيسية التي ترغب بإيجاد مناطق نفوذ عريضة، تتيح لها ‏التحكم بهذه المناطق، على نحو وصائي، إذ تشعر الدول الداعمة بجاذب عاطفي ذي طبيعة طوائفية عابرة للحدود. ويستفز التعاطف ذو الطبيعة ‏المادية المكوناتِ المختلفةَ، فتشتد علامات التوتر، وتصل، كما هو حاصل ‏حالياً، إلى حدود الانفجار‎.
ليس هذا النوع من الصراع علامة فارقة للراهن المتصدع، فقد كان التعاطف الطائفي تقليداً عميقاً ذا جذور تاريخية، بدليل أن القوى العظمى ‏في القرن التاسع عشر نصبت نفسَها حامية لبعض المجموعات الدينية، ‏بهدف إيجاد موطئ قدم لها، ونجحت في ذلك الأمر الذي أحدث بؤرة عدم ‏استقرار، وفوالق مذهبية ذات طبيعة انفجارية.‏
استخدمت روسيا القيصرية، في القرن الثامن عشر، الأقليات الأرثوذكسية ‏الموجودة على أراضي الدولة العثمانية منصةً للتدخل في شؤون العثمانيين، وادعت فرنسا لنفسها تمثيل الأقليات الكاثوليكية، وبشكل أكثر وضوحاً ‏الطائفة المارونية، وانتزعت لنفسها حق التدخل في أراضي السلطنة أيضاً، وبموجب هذا الحق، دافعت عن المسيحيين في مواجهات العام 1860 ‏الشهيرة، ونشبت "حرب القرم" أصلاً لمواجهة التدخل الروسي المباشر في ‏أراضي السلطنة.‏
يُضعف هذا النوعُ من الاصطفاف الدولَ القومية، ويعرّضها لاهتزاز تقسيمي عنيف، ويُضعف السيادة الوطنية، ويُعَرِّض الدول للتفكك بسهولة، فالتدخل ‏المذهبي يغذي الصراعات، ويوسّعها، ويخلق مناطق عدم انتظام، وفوضى، وتخفي غالبية هذه الصراعات ذات الشكل المذهبي وراءها أهدافاً جيوسياسية، تأخذ من الشكل الطائفي نموذجاً للمواجهة، وذلك لسهولة ‏العزف عليه وسرعة الاستجابة له، فإيران، في الظرف الحالي، وعلى الرغم من ‏تحالفها ذي الطبيعة المذهبية (الشيعية) الخالصة، يكاد هدفُها النهائي ‏يُفْصح عن نفسه، برغبتها بموطئ قدم على شواطئ المتوسط، وقدم أخرى ‏على مضيق باب المندب، ولا بأس من توسيع رقعة وجودها على الخليج ‏العربي، وهي الدولة التي لا تخجل من إعلان لهفتها للوجود على الشاطئ ‏الآخر من الخليج‎.‎
تلجأ المجموعاتُ المذهبية الصغيرة، بدورها، إلى حُماة إقليميين، لشعورها بالخطر، أو بالغبن، الذي ربما لا يكون حقيقياً، من قِبَلِ مجموعات محلية ‏أخرى.. وأحياناً، تضحي بمصالحها في سبيل الحصول على الحماية والدعم اللازمين، فتتحول إلى مجرد "زمبرك" تحريضي، يعرّض مصالحها، أولاً، ‏لخطر داهم، وقد تتحول قضيتها برمتها من شأن وطني إلى قضية مذهبية ‏خالصة، وتجد الدول الإقليمية في هذه الوضعية فرصة سانحة لمزيد من ‏التدخل والسيطرة، مثل حزب الله الذي يشكل "استعصاءً" سياسياً وعسكرياً ‏يحول دون إعطاء لبنان شكل الدولة، بسبب وجود هذا الحزب الواسع ‏الصلاحيات، المسيطر على البلد، تحت شعارات الممانعة والتحرير، الذي ‏اتخذ، أخيراً، شكلاً خطيراً بتداخله العضوي في الحرب السورية، لمجرد تلقيه ‏أمراً إيرانياً بذلك، وليس استجابة لحاجة داخلية ملحة.‏
لحل هذا العقدة، يجب حَلُّ الصراعات التي تختفي وراء الاشتباك المذهبي الصرف، واستيعاب المجموعات الطائفية (شيعة/ سنة) ضمن هياكل حكم ‏مناسبة، تخفف جاذبية الارتهان للخارج، لكن هذه المهمة ليست سهلة، ‏وليست متاحة في الوقت الراهن، بعد عقود من سلوكيات التمذهب والتمترس ‏خلف الطائفة، وتشكيل أحلاف دينية، ما أدى إلى تلاشي "الوطني" بين ‏تلافيفها المعقدة. ولا يمكن، في الوقت نفسه، "وضع الحزن بالجرن"، فكل شيء ‏يتآكل بسرعة جنونية، الأرض، والوطن، والإنسان، والموارد، لصالح ‏الطائفية، حتى أصبح الحديث عن التقسيم" مهيمناً، وقد يصبح مستساغاً ‏كحل لوقف الحرب، لكنه، في الواقع، تمهيد لحرب جديدة بين طوائف ‏أصغر، وتمهيد آخر لحروب حدودية ذات أخطار وقدرات تدميرية تفوق كل ‏ما هو حاصل.