مع كل عيد أضحى يتكرر مشهد الشاحنات التي تجوب الأحياء والأزقة في تونس لتجميع جلود الأضاحي حيث يستعين عادة أصحاب الشاحنات بأطفال لا تتجاوز سنهم 15 سنة توكل إليهم مهمة طرق أبواب البيوت للبحث عن الجلود التي يستغني عنها أصحابها فيما يكلف فريق آخر بالتنقل بين أكياس النفايات للمهمة ذاتها.
ويعد عيد الأضحى مناسبة مهمة لتجار الجلود لتجميع المادة الخام بأبخس الأثمان، فغالبا ما تكون الجلود المجمعة من البيوت إما مجانية أو بمقابل زهيد لا يتجاوز في أحسن الحالات الدولار الواحد للجلد، كما توفر هذه المناسبة دخلا معتبرا لمتصيدي الفرص والمختصين في الأعمال الموسمية.
ويرى منتصر حسني، صاحب عربة لتجميع الجلود، أن هذا النشاط يقدم خدمات جليلة للبيئة ويحمي الشوارع والأحياء من تناثر بقايا الأضاحي التي تتكدس لأسابيع وتتسبب في انبعاث روائح كريهة في محيط الأحياء السكنية، مشيراً إلى أنه يضرب في كل أضحى عصفورين بحجر واحد، فهو يدرك جيدا كيف يجني الأموال من تجميع الجلود ويساعد على توفير محيط سليم.
ويضيف منتصر، الذي امتلك الخبرة في إقناع ربات البيوت على تمكنيه من الجلد مجانا، أن الحظ قد يحالفه في تجميع أكثر من ألف جلد في غضون يومين، وهو ما يمكنه من عائدات تفوق الألفي دينار (1100 دولار) في حالة توفقه في عقد صفقة جيدة مع صاحب مصنع الجلد المدبوغ الذي يتسلم المادة الأولية بما يعادل الدولار عن كل قطعة، وفق ما أكده منتصر في حديثه لـ "العربي الجديد".
ويعتقد منتصر، الذي قاد مراسلة "ألعربي الجديد" إلى أحد مصانع الجلد المدبوغ، أن هذه المهنة لن تعمر طويلاً نظراً للصعوبات الكبيرة التي تواجهها المصانع بسبب انقراض أهل المهنة وتقادم جل المصانع التي كانت توفر لسوق الصناعات التقليدية وللسياح منتجات راقية من الجلد المدبوغ (المصبوغ على الطريقة التقليدية).
ولم تكن توقعات منتصر باندثار صناعة الجلد المدبوغ من فراغ، فحال المصنع الذي قادنا إليه كان أكبر دليل على أن مستقبل إحدى أشهر الصناعات التقليدية في تونس مهدد فعلا بالدخول في طي النسيان، فقد كان المصنع الذي استقبلنا صاحبه علي الدريدي، عبارة عن بيت تقليدي في قلب المدينة العتيقة "باجة" (إحدى محافظات الشمال الغربي) وباحة كبيرة مخصصة لمعالجة الجلود وصباغتها.
اقرأ أيضاً: تونس: الملابس المستعملة تزاحم الجديدة
ويقول علي في حديثه لـ "العربي الجديد" إن المصنع يعود للأربعينات من القرن الماضي وقد كان يشغّل أكثر من مائة شخص عندما كانت تجارة الجلد المدبوغ التونسي رائجة تصل إلى حدود آسيا، وكان المصنع مقسماً إلى عدة ورشات في اختصاصات متعددة، فمنها ما هو مخصص لاستغلال الصوف ومنها ما هو معد لتمشيط الجلود، في حين يخصص القسم الأكبر لدباغة الجلود في مغاسل بنيت خصيصا لتجميع الماء الملون بالصبغات الطبيعية وفق ما يؤكده علي.
مع مرور السنوات، يقول علي، إن الطلبات على الجلد المدبوغ الذي كان يخصص لصناعة الأحذية والحقائب التقليدية والمحافظ بدأت تقل وبدأت المصانع تغلق أبوابها، عدا البعض ممن يتمسكون بهذه الحرفة إلى حد الآن، وغالبا ما تدب الحياة، حسب تعبيره، في المشاغل التي تكابد من أجل البقاء بعد عيد الأضحى الذي يوفر للمشاغل مادة خاما بأسعار زهيدة على خلاف الأيام العادية التي يضطر فيها أصحاب المصانع إلى التزود بالجلود من المسالخ العمومية بأسعار تفوق بكثير الأسعار المتداولة في فترة العيد.
وتواجه مصانع الجلد المدبوغ التي كان أصحابها من أثرياء القوم لازدهار هذه التجارة في السنوات الخوالي، العديد من المصاعب اليوم بسبب عزوف تجار الصناعات التقليدية والمحلات السياحية عن اقتناء المنتجات الجلدية التقليدية المصنوعة من مواد طبيعية مائة بالمائة، حيث يأسف صاحب المصنع لغزو المنتجات الجلدية الآتية من الصين للأسواق التقليدية، معتبرا أنه لا مكان للمقارنة بين المنتجين من حيث النوعية، غير أن ميزة السلع الصينية أنها غير قابلة للمنافسة بسبب أسعارها الزهيدة وقدرتها على تقليد المنتجات الأصلية.
ويعرب علي الدريدي عن أسفه لأن صناعيي الجلد المدبوغ لم يتمكنوا من المحافظة على هذه الصناعة ليس فقط كنشاط اقتصادي يوفر العديد من فرص العمل، بل أيضا كموروث تقليدي.
ولا توفر الجهات الرسمية أي إحصائيات أو بيانات عن هذه الصناعة أو عدد الصناعيين مكتفية بإدراجها ضمن الحرف المهددة بالزوال التي تحتاج إلى دعم خاص، وهو ما يجعل الصناعيين في معركة متواصلة من أجل الإبقاء على حرفتهم وضمان موارد رزقهم في ظرف اقتصادي صعب وكساد السوق السياحية الي خسرت نصف عائداتها جراء العمليات الإرهابية.
اقرأ أيضاً: الأسعار والمدارس يحرمان التونسيين من الأضحية