يُعَدّ اعتقال الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال الإسرائيلي تعذيباً بحدّ ذاته، ثمّ تُضاف إليه أشكال أخرى من التعذيب الجسدي والنفسي.
كانت تلك المرة الأولى التي ترى فيها الفلسطينية روان الحنش زوجها الأسير جميل درعاوي في محكمة عوفر العسكرية الإسرائيلية، بعد ثلاثين يوماً من التحقيق في مركز المسكوبية بالقدس المحتلة. في ذلك اليوم، كان الأمر صعباً عليها. هي رأت زوجها الذي أصيب بخلع في الفكّ نتيجة التعذيب الذي خلّف آثاراً أخرى فيه. وتصف لـ"العربي الجديد" كيف كان "فم جميل الذي يبدو وكأنّه وصل إلى أذنه، فيما كان جسده يرتجف ويجد صعوبة في الوقوف". وجميل درعاوي البالغ من العمر 40 عاماً هو ابن بلدة الشواورة الواقعة في شرق محافظة بيت لحم جنوبي الضفة الغربية المحتلة، اعتقلته قوات الاحتلال في 11 سبتمبر/ أيلول 2019، وهو ما زال يعاني آثار التعذيب، بحسب ما تؤكّد زوجته التي تحكي كيف أنّ "الاختلاجات متواصلة في جسده، فيما آثار الحروق بيّنة على يدَيه، على شكل بقع، بالإضافة إلى خلع فكّه". يُذكر أنّه بدا بهذه الحال في خلال جلسة محاكمة له في الأسبوع الماضي.
لم تتمكّن روان من زيارة جميل أخيراً، غير أنّها تحصل على معلومات في خلال جلسات المحاكمة، في دقائق معدودة. وهو أخبرها أنّ "الديسك" (الانزلاق الغضروفي) في ظهره تفاقم بسبب وضعيّة "الموزة" على كرسي التحقيق، أمّا الاختلاجات فسببها الضرب الشديد وتعرّضه إلى الصعق بالكهرباء. وتقول روان نقلاً عن جميل إنّ "المحققين ضربوه على وجهه، فوقع أرضاً. ثمّ راحوا يركلونه بأرجلهم على رأسه، ما تسبّب في خلع فكّه وإغمائه، فتمّ تحويله إلى المستشفى حيث بقي لمدّة يومَين. وهو حتى اللحظة يعاني صعوبة في مضغ الأكل، فيما العلاج الوحيد التي يتلقّاه هو ذلك الطبيعي الذي يقدّمه له أحد رفاق الأسر". وتطالب بإثارة القضية ليتمكّن زوجها من الحصول على العلاج اللازم.
وجميل درعاوي واحد من 40 أسيراً اعتقلوا ما بعد أغسطس/ آب 2019، وقد وثّقت مؤسسة الضمير لرعاية الأسير وحقوق الإنسان خضوعهم إلى تحقيق عسكري وتعذيب شديد. وقد أعلنت المؤسسة في مؤتمر صحافي عقدته في الأسبوع الأخير من ديسمبر/ كانون الأول المنصرم تفاصيل صادمة حول ما حصل مع عدد من الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال. وتؤكد مديرة مؤسسة الضمير لرعاية الأسير وحقوق الإنسان، سحر فرنسيس، لـ"العربي الجديد"، أنّ "الضرب على الوجه الذي تعرّض له درعاوي والذي أدّى إلى خلع فكه تكرّر مع الأشخاص الذين اعتقلوا بمعظمهم"، موضحة أنّ "استهداف منطقة الوجه تكرّرت لما له من تأثير نفسي وما يمثّله من إهانة للمعتقلين".
ولم يقتصر التعذيب في عام 2019 على الحالات الأربعين التي وثّقتها مؤسسة الضمير بعد شهر أغسطس/ آب الماضي، غير أنّ ما يميّز تلك الحالات أنّها أتت في فترة زمنية واحدة، مع ارتفاع نسبة استخدام التعذيب الشديد في حقّ عشرات الأسرى بالمقارنة مع الأعوام السابقة، علماً أنّ الأساليب ليست جديدة إنّما مستوى العنف فيها أكبر وقد امتدّ لفترات طويلة، وذلك بغضّ النظر عن لوائح الاتهام التي صدرت في نهاية التحقيقات. والتعذيب غير محصور بالجسدي، إذ ثمّة أشكال مختلفة منه، لا سيّما الضغط النفسي الممارس على الأسير، بدءاً بعزله ومنعه من لقاء محاميه لمدّة أربعة أسابيع أو خمسة في حالات عديدة. وقد وصل الأمر في خلال الحملة الأخيرة الموثّقة من قبل مؤسسة الضمير، بحسب ما تفيد فرنسيس إلى حدّ "تهديد الأسيرات باغتصابهنّ، مع تحرّش لفظي وسباب بشع. وقد تكرّر ذلك في خلال التحقيق مع الأسيرات والأسرى الأطفال تحديداً". تضيف فرنسيس أنّ "الأسرى الذكور تعرّضوا كذلك إلى التفتيش العاري، وهو أسلوب يحاول الاحتلال من خلاله إذلال الأسير والحطّ من كرامته".
ومن أساليب التعذيب النفسية كذلك جعل الأسرى يسمعون أصوات الألم الصادرة عن أسرى آخرين. وهذا ما تعرّضت إليه الطالبة الجامعية الأسيرة ميس أبو غوش من مخيّم قلنديا شمالي القدس المحتلة، عبر إسماعها صراخ أسرى آخرين سمعوا بدورهن صوتها وهي تُعذَّب في خلال التحقيق معها. وفي بعض الأحيان، تُطلَق تهديدات بتعريض أهالي الأسري إلى التعذيب نفسه بعد اعتقالهم. وقد تمّ بالفعل اعتقال ذوي الأسرى قسام البرغوثي ووليد حناتشة ويزن مغامس، واستدعي في أكثر من مرّة ذوو الأسيرة ميس أبو غوش فضلاً عن اعتقال شقيقها.
وفي خلال فترة التحقيق مع ميس في سجون الاحتلال لم تكن عائلتها تعلم أيّ شيء عنها، وهو ما تؤكده والدتها نجوى أبو غوش لـ"العربي الجديد" التي تقرّ بأنّها خبرت "تفاصيل تعذيبها عندما أعلنت مؤسسة الضمير أنّ ميس تعرّضت لتحقيق عسكري بوضعية الموزة". وتخبر الوالدة كيف أنّ ميس ابتعدت عنها عندما حاولت احتضانها "بسبب الألم"، عندما استدعيت مع زوجها (والد ميس) للتحقيق معهما. تضيف الوالدة أنّ "ظهر ميس كان منحنياً، وبدت كأنّها أكبر بكثير ممّا هي عليه، أي 20 عاماً". وتؤكد الوالدة قساوة التحقيق مع ابنتها، وتنقل عنها أنّها "عند سؤالها عن التحقيق في خلال زيارتنا الأخيرة قبل أسبوعَين، أجابت: لقد نسيتُ نصف ما حصل ولا أريد أن تذكّروني بالنصف الآخر".
من جهتها، تقول رناد الريماوي زوجة الأسير اعتراف الريماوي، لـ"العربي الجديد"، إنّها "حتى اللحظة وعلى الرغم من مرور أشهر على تعذيب زوجي فإنّني لا أعلم تفاصيل ما حصل معه وأنتظر نتيجة زيارة المحامي لمعرفة ذلك. كلّ ما أعرفه هو شكله وقد خسر كثيراً من وزنه، حين رأيته في المحكمة بعد 42 يوماً". تضيف أنّ "اعتراف لم يكن قادراً على الوقوف، لكنّه قال لي: أنا اليوم بوضع ممتاز"، مؤكدة أنّ صورته تلك تعود إليها. وبحسب مؤسسة الضمير، فقد تعرّض اعتراف الريماوي إلى ضرب عنيف وإلى حرمان من النوم وإلى التحقيق بوضعية الشبح.
وتشير بيانات نُشرت أخيراً في تقرير مشترك لمؤسسات الأسرى وحقوق الإنسان (نادي الأسير الفلسطيني، ومؤسسة الضمير لرعاية الأسير وحقوق الإنسان، وهيئة شؤون الأسرى والمحرّرين) إلى أنّ قوات الاحتلال اعتقلت أكثر من 5500 فلسطيني في خلال عام 2019، من بينهم 889 طفلاً و128 امرأة، وقد تعرّض 95 في المائة منهم إلى تعذيب منذ اللحظة الأولى للاعتقال. وأبرز أساليب التعذيب الحرمان من النوم، وتقييد اليدين في أثناء التحقيق، والصفع، والإساءات اللفظية، والتهديد بالاعتداء الجنسي أو هدم المنزل أو اعتقال الأقارب، والتعرّض للضوضاء. ويتناول التقرير استشهاد الأسير نصار طقاطقة في سجون الاحتلال بعد تعرّضه إلى التعذيب في التحقيق، فهو أصيب نتيجة ظروف التحقيق والاحتجاز القاسية بالتهاب رئوي حاد رافقه إهمال طبي متعمّد كجزء من التعذيب.