الأسئلة المعلقة
مرت، الآن، أربع سنوات على الموجة الأولى "للربيع العربي"، ولا تزال أسئلة كثيرة معلقة بلا أجوبة يقينية واضحة. أسئلة كثيرة برسم الماضي القريب تحاصر المستقبل، وتطارده، كل يوم، مع كل نقطة دم تسقط هنا أو هناك، ومع كل روح تُزهق على أيدي مجرم هنا، أو مستبد هناك. لم يعد شريط الأخبار "العاجلة" يحمل أخباراً سارة، وإنما يقذف أخباراً مؤلمة وقصصاً موجعة، لم يكن لأحد أن يتخيلها قبل أربع سنوات. حكايات متكررة لعائلات ثكلى، وأطفال يتامى، ونساء تتشح بالسواد، بعد أن فقدت عزيزاً، أو ودّعت قريباً، ونفوس حائرة وضعت همومها فى حقيبة سفرها، وحملتها على ظهرها، مودعة الأهل والوطن والأحباب.
هل ثرنا حقاً، أم كانت ثوراتنا بلا أنياب، فلم تقوَ على اقتلاع جذور الاستبداد؟ وهل سقطت ثوراتنا بسبب قلة خبرتنا ووعينا ورعونة قياداتنا، أم كانت ضحية انقساماتنا وخلافاتنا وخياراتنا السيئة؟ هل كانت الثورة المضادة قدراً محتوماً، أم جاءت نتيجة أخطائنا وفشلنا وضعف خياراتنا؟ وهل تتحمل أحزابنا ونشطاؤنا وجماعاتنا السياسية والثورية المسؤولية، أم تتحملها الشعوب التي لم تصبر على دفع فاتورة التغيير؟ هل نحن شعوب صالحة للثورة ابتداء، أم أننا شعوب تعشق الاستبداد والاستعباد؟ وهل انحازت أغلبيتنا إلى الحرية والعدالة والكرامة، أم مالت باتجاه الصمت، من أجل الاستقرار؟
مضت الأعوام الأربعة، ولا تزال أسئلة كثيرة عالقة، فماذا كسب الإسلاميون من الهرولة إلى السلطة، وماذا خسروا؟ وماذا حقق العلمانيون بتواطئهم وتآمرهم، وإلى ماذا وصلوا؟ وماذا حدث لشباب الثورة، ولماذا انتكسوا؟ وماذا حلّ بملايين الحالمين بالتغيير، وأين ذهبوا؟ وماذا حدث لشعوبنا، ولماذا استمرأوا البطش والقتل، ولماذا صمتوا؟ وأين ذهب رموز "الربيع العربي"، وكيف سقطوا؟ وأين ذهبت صيحات "الحرية والكرامة والعدالة"، ولماذا اختنقت؟
سنوات أربع مرت، لم نقرأ فيها، أو نسمع، عن مراجعة للأخطاء، أو وقفة جادة مع الذات، أو مراجعة لفكر أو محاسبة لقيادة، أو تغيير لاستراتيجية أو تعديل لخطة، أو نرى خطوة إلى الخلف، من أجل تصحيح المسارات. فتكررت الكوارث، وتكاثرت المحن والنوازل، وتكالب الخصوم، وتضاعفت الهموم، ولم يعد في الصدر متسعٌ لمزيد من الألم والشجون.
بعد أربع سنوات، لم يعد أمام بعضنا سوى أن يصرخ: "جبنا آخرنا" من شدة القهر والظلم، بينما يئن بعض آخر تحت سياط السلطوية، وتفحش "إعلامها" وانحطاط إعلامييها وتواطؤ نخبتها ومثقفيها. وبعد أربع سنوات، لم تعد الثورة حلماً، بل باتت كابوساً، ولم يعد التغيير مطلباً، وإنما أصبح مرادفاً للعنف والفوضى. بعد أربع سنوات، سقط الثوار، وانقلب الجنرالات، وانقسمت الآراء، وتفتت الرؤى، وانزوى التوافق والإجماع.
سنوات أربع مضت، تمكنت فيها الأصولية السلطوية من استعادة زمام المبادرة، بمساعدة ورعاية حلف إقليمي فاسد، احتضن الثورة المضادة، فموّل رجالها، وجهّز إعلامها، فانطلقوا جميعاً ينهشون فى جسد الثورة الأصيلة. اشتروا النفوس، وأفسدوا الأخلاق، وزوّروا الأقلام، واغتصبوا الأحلام، واستحلوا الدماء، وتآمروا على الشباب، وأتلفوا الألباب. فعلوا ذلك تحت غطاء دولي سافر، وتواطؤ أممي مُشين، وصمت عالمي مفضوح، سوف يظل نقطة سوداء في سجّل التحرر من الاستبداد. لا يخجل تحالف الثورات المضادة من أقواله وأفعاله، بينما يصمت أصحاب الحقوق وطالبو التغيير، هروباً أو خوفاً.
نجحت الثورة المضادة، ولو مؤقتاً، بعد أن استفاق السلطويون، وانقسم الثوريون، وتفرّق المتحمسون للتغيير، بعد أن فترت عزيمتهم، وضعُفت شوكتهم، وانزوى معظمهم خوفاً أو إحباطاً أو فشلاً. وسقطت الثورة الأصيلة تحت ضربات قضاءٍ لا يُنصف، ونخبٍ لا تُنصت، وجمهور لا يكترث، ومؤسسات قاصرة، تعتاش على الفساد، وتمالئ السلطان، وتحمي عرين الاستبداد.
سنوات أربع مرت، سقط فيها عشرات الأبرياء من كل الفرق والتيارات والجماعات، وارتقت فيها أرواح عزيزة، وكُسرَت فيها نفوس سليمة، واحترقت فيها وجوه كانت يوماً شريفة، ولم يعد على السطح سوى نفايات عقلية وبقايا بشر. هذا كله بينما لا يزال رفقاء الميادين منقسمين، حائرين، تائهين، متنابذين، ومتعاتبين، كأن شيئاً لم يحدث، وكأن الثمن لم يكن فادحاً. ماذا تنتظرون، بعد أن خُنقت الثورات، ووقعت الانقلابات، وانتفض المستبدون، وتوحش المرتزقة والمنتفعون؟ ماذا تنتظرون بعد أن بُرّئ القتلة، وتعالت ضحكات الفجرة، وسُجن الأبرياء، وضاعت حقوق الشهداء؟ وماذا تنتطرون، بعد أن وصل البطش والقمع إلى أعتاب بيوتكم، بينما أنتم تتناحرون وتتشاجرون وتتلاومون؟
أما السؤال الكبير فهو: هل كانت "الثورات" العربية من تونس إلى اليمن ثورات حقيقية، أم كانت انتفاضة ما قبل "الموت" والسكون؟