حين كانت الجماهير في ميدان التحرير سنة 2011 تطالب برحيل الطاغية، كان شيخ الأزهر الذي تولّى منصبه حديثا يدعوهم إلى التعقّل. ثمّ سارع بعد سقوط مبارك بالدعوة إلى إخلاء ميدان التحرير، مخرجا من ترسانة الأزهر النظريّة فكرة عدم جواز الخروج على الحاكم. بيد أنّه من المتسرّع الحكم بأنّ أبناء الأزهر لم يساندوا الثورة، فصور كثيرة موثّقة تبرز شيوخا بعمائمهم وجلابيبهم يجوبون ميدان التحرير.
وليست هذه المفارقة جديدة في ذاكرة الأزهر والمصريّين. فكأنّ التاريخ يعيد نفسه. ففي ثورة 1919 صمت الأزهر عند انطلاق الثورة، بل دعا إلى التهدئة بطلب من المحتلّ. ولم يعرب عن رأيه السياسيّ إلاّ بعد 15 يوما حين هجم الجنود البريطانيّون على الأزهر يوم 11 ديسمبر/كانون الأول 1919. وفي المقابل، كان طلبة الأزهر يخوضون المعركة ويشاركون في اللجان والتنظيمات النقابيّة المقرّبة من "الوفد"، وساهموا في العمل السرّيّ والعنيف.
وإن هذا إلاّ مثال بسيط عن علاقة أبرز مؤسّسة دينيّة في العالم السنّيّ مع الدولة. فبين الأزهر والدولة المصريّة شراكة متقلّبة تتراوح بين الخضوع والمواجهة والاحتواء والنزعة إلى الاستقلال. وهو ما يطرح أسئلة مدارها على دور رجال الدين في المجتمعات العربيّة الإسلاميّة.
اقــرأ أيضاً
وقد خصّصت الباحثة مليكة الزغل، الأستاذة بجامعة هرفارد، أطروحتها في العلوم السياسيّة "حرّاس الإسلام: علماء الأزهر في مصر المعاصرة"، لتناول القضايا التي يطرحها حضور رجال الدين في الفضاء العموميّ وفي جهاز الدولة والمواقف المتنوّعة التي يفرزها التفاعل مع المجتمع والسياسة، وذلك إلى حدود بداية التسعينيات من القرن المنصرم. ولكن لا شيء يدلّ على أنّ ما كان بعد هذه الفترة مغاير نوعيّا لما طرحته الباحثة في هذا الكتاب.
إصلاح الأزهر وآثاره
لئن ظلّ المسلمون، وحتّى بعض المستشرقين، يردّدون بأنّه لا كهنوت في الإسلام، فإنّ الواقع يؤكّد في الأقلّ وجود مجموعة من تقنيي المعرفة الدينيّة والمختصّين فيها. وهم يقومون بطريقة ما بدور الوساطة بين المقدّس والدنيويّ. ومن هذه الناحية كان الأزهر مؤسّسة لتكوين المختصّين في حراسة المدوّنة الإسلاميّة وضبط المعنى، علاوة على تخريجه أجيالا من ممارسي المهن ذات الطابع الدينيّ من قبيل المأذون الشرعيّ والإمام والواعظ ومرتّل القرآن والمدرّس في الأزهر نفسه، وذلك منذ إنشاء جوهر الصقلّي جامع الأزهر في القرن العاشر الميلادي، ليكون مركزا للدفاع عن المذهب الشيعي وتدريسه.
وقد زادت حركة تحديث المجتمع وعلمنة الدولة منذ عهد محمّد عليّ هذا الاختصاص وضوحا وتهميشا في الآن نفسه، مقابل النخب المتخرّجة من التعليم العصريّ، التي شغلت أهم الوظائف في المجتمع وأكثرها تأثيرا فيه. فقد أدّى امتناع الأزهريّين عن تحديث مؤسّستهم إلى إضعاف موقعهم في المجتمع وفي علاقتهم بالسلطة.
والمفارقة أنّ الإصلاح الجدّيّ الأوّل للأزهر في عهد عبد الناصر، ما يعرف بإصلاح سنة 1961، مثّل ضربة موجعة، إذ كشف عن تناقضات كامنة وعجز حقيقيّ عن مواكبة العصر. فبعد أن ألغى النظام الناصري الأوقاف الأهليّة وأمّم الأوقاف الخيريّة، صار الأزهريّ موظّفا تابعا للدولة التي كانت تموّل المؤسّسة الدينيّة تمويلا كاملا. والحقّ أنّ عبد الناصر وجد سندا قويّا في مسعاه الإصلاحيّ لدى بعض الأزهريّين من أمثال الشيخ محمود شلتوت (الإمام الأكبر للأزهر بين 1958 و1963) والشيخ محمّد البهيّ.
"الرئيس المؤمن" وتناقضات الأزهر
كشف عهد "الرئيس المؤمن" أنور السادات عديد التناقضات التي ظلّت تعتمل في صلب الأزهر. فقد وجدت المؤسّسة نفسها في قلب المعركة السياسيّة. فوظّف الأزهر أكثر من عبد الناصر لمواجهة المعارضين السياسيّين، باستخدام الفتاوى، مثلما شجّع الحركات الإسلامويّة لإضعاف اليسار في الجامعة. وسرعان ما وجد الأزهر نفسه متحالفا مع النظام ليواجه حركتي العلمنة والأسلمة. ولكنّ الأزهريّين لم يستطيعوا تحويل دورهم الدينيّ المساند للسادات إلى دور سياسيّ مستقلّ، بل وجدوا أنفسهم يحترقون بنار الحركات الإسلاميّة، خصوصا بعد أن اغتالت جماعة التكفير والهجرة سنة 1977 وزير الأوقاف وأحد كبار العلماء الأزهريّين، الشيخ محمد حسين الذهبيّ. فالأزهريّون عند هذه الجماعات خدم للنظام الكافر. ورغم أنّ آليّة التكفير التي اعتمدها الإسلام السياسيّ لم تكن غائبة عن منطق الأزهر نفسه، إلا أنه لم يستخدمها ضدّ السلطة.
اقــرأ أيضاً
وبعد أن برّر شيوخ الأزهر اشتراكيّة عبد الناصر، لم يجدوا غضاضة في اعتبار المعركة في العالم دائرة بين الإيمان والكفر، وتقدّموا بمطالب عديدة لعودة الدينيّ إلى المجالين الخاصّ والعامّ. وهو ما يسّر للأزهر تبرير التخلّي عن السياسة الاشتراكيّة وتحرير السوق في عهد السادات، متناسيا خطابه القديم.
والتقى الأزهر مع حركات الإسلام السياسيّ، رغم رفضه استراتيجيّة الوصول إلى السلطة بالعنف، في تبنّي فكرة العودة إلى الإسلام. وبرز في هذا الباب الشيخ عبد الحليم محمود، الذي جعل من مطلب تطبيق الشريعة لتغيير الواقع استراتيجيّة له وللأزهر، معتمدا على علاقاته الجيّدة بالسعوديّة. فالفرق إذن بين أسلمة بالقوّة من أعلى وأسلمة من أسفل بتغيير السلوك الفرديّ وإصلاح المجتمع وتغيير القوانين، بما أنّ الإسلام هو الدين الرسميّ، حسب الدستور المصريّ.
بيد أن رفض السادات دمج الدين بالسياسة جعل الأزهر نفسه ينقسم بين متحالف مع السادات ومعارض له. وأوجد هذا الانقسام ظاهرة جديرة بالانتباه. فقد عوّل بعض الشيوخ من الأزهر على منظومة من المساجد والجمعيّات للتحرّك باسم الدعوة. وتقدّم بعض الإحصاءات التي عرضتها مليكة الزغل فكرة عن هذه البنية التحتيّة للدعوة. فقد كان عدد المساجد الأهليّة سنة 1975 في حدود 23575 (إضافة إلى 5163 مسجدا حكوميّا) وبلغ سنة 1985 ما يناهز 43 ألف مسجد (مقابل 7000 مسجد حكوميّ). وارتفع عد الدعاة من 2500 داعية سنة 1975 إلى 4000 داعية سنة 1985.
في البحث عن استعادة مجد الأزهر
وفي المقابل، حرص الشيخ عبد الحليم محمود على استعادة عظمة الأزهر، معتمدا على تمويلات خاصّة وخارجيّة من بعض بلدان الخليج. فركّز على توسيع نطاق التعليم الأزهريّ الذي أصبح يستوعب أعدادا مهولة مع نوعيّة رديئة في التعليم وضعف الشهادات الممنوحة. وهو ما زاد في خيبة أمل الملتحقين به، وأدخل التعليم الدينيّ في دوّامة بلا قرار. وما هذا إّلا نتيجة لقاعدة معروفة يرتبط فيها الانتشار السريع غير المدروس بالضعف والوهن. فكان حلم العظمة سببا في مزيد من التدهور.
وممّا نستنتجه من التفاصيل المهمّة التي تقدّمها لنا مليكة الزغل في بحثها أنّ فترتي السبعينيات والثمانينيات بالخصوص تكشف عمّا يمكن اعتباره نزعة عامّة في علاقة الأزهر بالسلطة. فعلى قدر مهادنة الأزهر للسلطة أو مواجهتها يكون اقترابه من حركات الإسلام السياسيّ والبعد عنها. وعلاوة على ذلك، تدور وقائع المعركة بين العمائم في المجال الدعويّ ومجال التعليم بالخصوص. وهي معركة مدارها ظاهريّا على تأويل المدوّنة الدينيّة وجوهرها سياسيّ لا يخرج عن تبرير النظام القائم أو مناكفته.
عجز بنيويّ عن الإصلاح
إنّ كتاب "حرّاس الإسلام"، بالمعطيات الثريّة التي يقدّمها والقضايا التي يثيرها، يتيح للمغرمين بصياغة المفارقات مادّة خصبة لممارسة هوايتهم.
فعلي قدر التدخّل السياسيّ لإصلاح الأزهر يداخل الاضطراب مرجعيّته الفكريّة. وكلّما أتيحت له فرصة التوسّع ضعفت قدرته على تكون النخب الدينيّة التي تحرس الإسلام. وإذا أراد الأزهريّ أن يصل بالدعوة إلى مداها وجد نفسه يدعو إلى تطبيق الشريعة بما يجعله يصطدم بالدولة.
ومن مفارقات الأزهر الكثيرة أنّ ارتباطه بالدولة جعله يصارع من أجل استقلاليّة لا يمكنه بحكم تصوّراته الجامدة أن يبلغها. وإذا برّر النظام القائم فقد جزءا من شرعيّته في حراسة الإسلام وأنشأ من حيث لا يقصد نخبا أخرى دينيّة من خارجه تشاركه مجال تحرّكه. وكلّما أبدى الأزهريّون رأيا في الشأن الراهن وجدوا أنفسهم مقيّدين بمدوّنة قديمة عاجزة عن استيعاب تحوّلات الواقع.
إنّ وقوع الأزهر داخل شبكة معقّدة من المفارقات والتناقضات والضغوط والتقلّبات يدفعه إلى البحث باستمرار عن توازنات لا تكون إلاّ هشّة. وهي هشاشة تجعله محلّ انتقاد من جميع الأطراف.
ويبدو أن الأزهر لن يخرج عن هذا لتتخبّط مادام لا يجرؤ على إنجاز إصلاح دينيّ حقيقيّ. ولعلّ ذلك عائد إلى عجز بنيويّ بسبب افتقاده وسائل هذا الإصلاح. وهنا عندنا أصل الإشكال كلّه إن لم نقل المأساة التي تتكرّر فصولها.
(أكاديميّ وروائيّ من تونس)
اقــرأ أيضاً
وليست هذه المفارقة جديدة في ذاكرة الأزهر والمصريّين. فكأنّ التاريخ يعيد نفسه. ففي ثورة 1919 صمت الأزهر عند انطلاق الثورة، بل دعا إلى التهدئة بطلب من المحتلّ. ولم يعرب عن رأيه السياسيّ إلاّ بعد 15 يوما حين هجم الجنود البريطانيّون على الأزهر يوم 11 ديسمبر/كانون الأول 1919. وفي المقابل، كان طلبة الأزهر يخوضون المعركة ويشاركون في اللجان والتنظيمات النقابيّة المقرّبة من "الوفد"، وساهموا في العمل السرّيّ والعنيف.
وإن هذا إلاّ مثال بسيط عن علاقة أبرز مؤسّسة دينيّة في العالم السنّيّ مع الدولة. فبين الأزهر والدولة المصريّة شراكة متقلّبة تتراوح بين الخضوع والمواجهة والاحتواء والنزعة إلى الاستقلال. وهو ما يطرح أسئلة مدارها على دور رجال الدين في المجتمعات العربيّة الإسلاميّة.
وقد خصّصت الباحثة مليكة الزغل، الأستاذة بجامعة هرفارد، أطروحتها في العلوم السياسيّة "حرّاس الإسلام: علماء الأزهر في مصر المعاصرة"، لتناول القضايا التي يطرحها حضور رجال الدين في الفضاء العموميّ وفي جهاز الدولة والمواقف المتنوّعة التي يفرزها التفاعل مع المجتمع والسياسة، وذلك إلى حدود بداية التسعينيات من القرن المنصرم. ولكن لا شيء يدلّ على أنّ ما كان بعد هذه الفترة مغاير نوعيّا لما طرحته الباحثة في هذا الكتاب.
إصلاح الأزهر وآثاره
لئن ظلّ المسلمون، وحتّى بعض المستشرقين، يردّدون بأنّه لا كهنوت في الإسلام، فإنّ الواقع يؤكّد في الأقلّ وجود مجموعة من تقنيي المعرفة الدينيّة والمختصّين فيها. وهم يقومون بطريقة ما بدور الوساطة بين المقدّس والدنيويّ. ومن هذه الناحية كان الأزهر مؤسّسة لتكوين المختصّين في حراسة المدوّنة الإسلاميّة وضبط المعنى، علاوة على تخريجه أجيالا من ممارسي المهن ذات الطابع الدينيّ من قبيل المأذون الشرعيّ والإمام والواعظ ومرتّل القرآن والمدرّس في الأزهر نفسه، وذلك منذ إنشاء جوهر الصقلّي جامع الأزهر في القرن العاشر الميلادي، ليكون مركزا للدفاع عن المذهب الشيعي وتدريسه.
وقد زادت حركة تحديث المجتمع وعلمنة الدولة منذ عهد محمّد عليّ هذا الاختصاص وضوحا وتهميشا في الآن نفسه، مقابل النخب المتخرّجة من التعليم العصريّ، التي شغلت أهم الوظائف في المجتمع وأكثرها تأثيرا فيه. فقد أدّى امتناع الأزهريّين عن تحديث مؤسّستهم إلى إضعاف موقعهم في المجتمع وفي علاقتهم بالسلطة.
والمفارقة أنّ الإصلاح الجدّيّ الأوّل للأزهر في عهد عبد الناصر، ما يعرف بإصلاح سنة 1961، مثّل ضربة موجعة، إذ كشف عن تناقضات كامنة وعجز حقيقيّ عن مواكبة العصر. فبعد أن ألغى النظام الناصري الأوقاف الأهليّة وأمّم الأوقاف الخيريّة، صار الأزهريّ موظّفا تابعا للدولة التي كانت تموّل المؤسّسة الدينيّة تمويلا كاملا. والحقّ أنّ عبد الناصر وجد سندا قويّا في مسعاه الإصلاحيّ لدى بعض الأزهريّين من أمثال الشيخ محمود شلتوت (الإمام الأكبر للأزهر بين 1958 و1963) والشيخ محمّد البهيّ.
"الرئيس المؤمن" وتناقضات الأزهر
كشف عهد "الرئيس المؤمن" أنور السادات عديد التناقضات التي ظلّت تعتمل في صلب الأزهر. فقد وجدت المؤسّسة نفسها في قلب المعركة السياسيّة. فوظّف الأزهر أكثر من عبد الناصر لمواجهة المعارضين السياسيّين، باستخدام الفتاوى، مثلما شجّع الحركات الإسلامويّة لإضعاف اليسار في الجامعة. وسرعان ما وجد الأزهر نفسه متحالفا مع النظام ليواجه حركتي العلمنة والأسلمة. ولكنّ الأزهريّين لم يستطيعوا تحويل دورهم الدينيّ المساند للسادات إلى دور سياسيّ مستقلّ، بل وجدوا أنفسهم يحترقون بنار الحركات الإسلاميّة، خصوصا بعد أن اغتالت جماعة التكفير والهجرة سنة 1977 وزير الأوقاف وأحد كبار العلماء الأزهريّين، الشيخ محمد حسين الذهبيّ. فالأزهريّون عند هذه الجماعات خدم للنظام الكافر. ورغم أنّ آليّة التكفير التي اعتمدها الإسلام السياسيّ لم تكن غائبة عن منطق الأزهر نفسه، إلا أنه لم يستخدمها ضدّ السلطة.
وبعد أن برّر شيوخ الأزهر اشتراكيّة عبد الناصر، لم يجدوا غضاضة في اعتبار المعركة في العالم دائرة بين الإيمان والكفر، وتقدّموا بمطالب عديدة لعودة الدينيّ إلى المجالين الخاصّ والعامّ. وهو ما يسّر للأزهر تبرير التخلّي عن السياسة الاشتراكيّة وتحرير السوق في عهد السادات، متناسيا خطابه القديم.
والتقى الأزهر مع حركات الإسلام السياسيّ، رغم رفضه استراتيجيّة الوصول إلى السلطة بالعنف، في تبنّي فكرة العودة إلى الإسلام. وبرز في هذا الباب الشيخ عبد الحليم محمود، الذي جعل من مطلب تطبيق الشريعة لتغيير الواقع استراتيجيّة له وللأزهر، معتمدا على علاقاته الجيّدة بالسعوديّة. فالفرق إذن بين أسلمة بالقوّة من أعلى وأسلمة من أسفل بتغيير السلوك الفرديّ وإصلاح المجتمع وتغيير القوانين، بما أنّ الإسلام هو الدين الرسميّ، حسب الدستور المصريّ.
بيد أن رفض السادات دمج الدين بالسياسة جعل الأزهر نفسه ينقسم بين متحالف مع السادات ومعارض له. وأوجد هذا الانقسام ظاهرة جديرة بالانتباه. فقد عوّل بعض الشيوخ من الأزهر على منظومة من المساجد والجمعيّات للتحرّك باسم الدعوة. وتقدّم بعض الإحصاءات التي عرضتها مليكة الزغل فكرة عن هذه البنية التحتيّة للدعوة. فقد كان عدد المساجد الأهليّة سنة 1975 في حدود 23575 (إضافة إلى 5163 مسجدا حكوميّا) وبلغ سنة 1985 ما يناهز 43 ألف مسجد (مقابل 7000 مسجد حكوميّ). وارتفع عد الدعاة من 2500 داعية سنة 1975 إلى 4000 داعية سنة 1985.
في البحث عن استعادة مجد الأزهر
وفي المقابل، حرص الشيخ عبد الحليم محمود على استعادة عظمة الأزهر، معتمدا على تمويلات خاصّة وخارجيّة من بعض بلدان الخليج. فركّز على توسيع نطاق التعليم الأزهريّ الذي أصبح يستوعب أعدادا مهولة مع نوعيّة رديئة في التعليم وضعف الشهادات الممنوحة. وهو ما زاد في خيبة أمل الملتحقين به، وأدخل التعليم الدينيّ في دوّامة بلا قرار. وما هذا إّلا نتيجة لقاعدة معروفة يرتبط فيها الانتشار السريع غير المدروس بالضعف والوهن. فكان حلم العظمة سببا في مزيد من التدهور.
وممّا نستنتجه من التفاصيل المهمّة التي تقدّمها لنا مليكة الزغل في بحثها أنّ فترتي السبعينيات والثمانينيات بالخصوص تكشف عمّا يمكن اعتباره نزعة عامّة في علاقة الأزهر بالسلطة. فعلى قدر مهادنة الأزهر للسلطة أو مواجهتها يكون اقترابه من حركات الإسلام السياسيّ والبعد عنها. وعلاوة على ذلك، تدور وقائع المعركة بين العمائم في المجال الدعويّ ومجال التعليم بالخصوص. وهي معركة مدارها ظاهريّا على تأويل المدوّنة الدينيّة وجوهرها سياسيّ لا يخرج عن تبرير النظام القائم أو مناكفته.
عجز بنيويّ عن الإصلاح
إنّ كتاب "حرّاس الإسلام"، بالمعطيات الثريّة التي يقدّمها والقضايا التي يثيرها، يتيح للمغرمين بصياغة المفارقات مادّة خصبة لممارسة هوايتهم.
فعلي قدر التدخّل السياسيّ لإصلاح الأزهر يداخل الاضطراب مرجعيّته الفكريّة. وكلّما أتيحت له فرصة التوسّع ضعفت قدرته على تكون النخب الدينيّة التي تحرس الإسلام. وإذا أراد الأزهريّ أن يصل بالدعوة إلى مداها وجد نفسه يدعو إلى تطبيق الشريعة بما يجعله يصطدم بالدولة.
ومن مفارقات الأزهر الكثيرة أنّ ارتباطه بالدولة جعله يصارع من أجل استقلاليّة لا يمكنه بحكم تصوّراته الجامدة أن يبلغها. وإذا برّر النظام القائم فقد جزءا من شرعيّته في حراسة الإسلام وأنشأ من حيث لا يقصد نخبا أخرى دينيّة من خارجه تشاركه مجال تحرّكه. وكلّما أبدى الأزهريّون رأيا في الشأن الراهن وجدوا أنفسهم مقيّدين بمدوّنة قديمة عاجزة عن استيعاب تحوّلات الواقع.
إنّ وقوع الأزهر داخل شبكة معقّدة من المفارقات والتناقضات والضغوط والتقلّبات يدفعه إلى البحث باستمرار عن توازنات لا تكون إلاّ هشّة. وهي هشاشة تجعله محلّ انتقاد من جميع الأطراف.
ويبدو أن الأزهر لن يخرج عن هذا لتتخبّط مادام لا يجرؤ على إنجاز إصلاح دينيّ حقيقيّ. ولعلّ ذلك عائد إلى عجز بنيويّ بسبب افتقاده وسائل هذا الإصلاح. وهنا عندنا أصل الإشكال كلّه إن لم نقل المأساة التي تتكرّر فصولها.
(أكاديميّ وروائيّ من تونس)