الأزمة الليبية والهجرة السرية
بعدما كان النظام السابق في ليبيا يدير الهجرة السرية "غير الشرعية" بشكل منظم، لتحقيق أهدافه وأطماعه، ناهيك عن ابتزازه دولاً أوروبية كثيرة بها، وكذلك استعمال المهاجرين سياسياً وأمنياً، خصوصاً الذين ينحدرون من أصول أفريقية، حيث كان يراهم هدفا لتحقيق زعامته على تلك الدول، أولا، واستعمالهم سياسياً وعسكرياً ثانياً، وصل حال الهجرة السرية "غير الشرعية" اليوم مأزقاً حقيقياً لتلك الدول الأوروبية، في ظل الأزمة الأمنية التي تمر بها ليبيا، والتي أدت إلى تفاقمها. وما حدث أخيراً، الأسبوع الماضي، عند انقلاب سفينة تقل نحو 700 مهاجر، هو دليل على ذلك. وبهذا، اعتبرت إيطاليا أن السبب الرئيسي لأزمة المهاجرين غير الشرعيين عبر البحر المتوسط باتجاه أراضيها، هو الأزمة الأمنية والسياسية الليبية، آخذة في اعتبارها أن فرض الاستقرار في ليبيا يخفف من حدة هذه الأزمة. غير أن مشكلة الهجرة غير الشرعية، بمفهومها العام، لا ترتبط بدولة بعينها، بقدر ما يجب أن تفهم في مفهومها الشامل، من حيث الأسباب والدوافع والطرق الناجحة في التخفيف منها. لكن هذا لا يقلل من أهمية الاستقرار في بعض الدول، مثل ليبيا، إذ تعتبر بوابة العبور بين أفريقيا جنوب الصحراء وأوروبا، نظرا لكونها الأقرب إليها أولا، وأنها تعتبر، أيضاً، مُصَدرة للمهاجرين، بإدارة منظمة من النظام السابق، آنذاك، وتفاقمها وازديادها الآن، في ظل غياب الاستقرار السياسي والأمني للدولة.
من هنا، وجب النظر الدقيق لهذه المشكلة المركبة من عدة أطراف داخلية وخارجية دولية: فأما الداخلية فيجب المساعدة الفعالة من الاتحاد الأوروبي في إنهاء الصراع داخل ليبيا، والمساعدة في الوصول إلى الحوار والاتفاق الدائم في أقرب وقت ممكن، حتى ينظر فيما بعد لجهة واحدة تتابع هذا الملف الشائك، والمحاولة من التخفيف منه في السنوات القليلة المقبلة على أقل تقدير. ومن جهة الأطراف الخارجية الدولية، يجب على الدول المتضررة من المهاجرين الابتعاد عن الحلول الكلاسيكية العقيمة التي تتمحور حول ترحيل المهاجرين من دول العبور، أو من الدول الأوروبية الواصلة إليها فقط، من دون النظر إلى التبعات المرافقة لهم. وهذا ما ثبت عبر السنوات الماضية، إذ كانت السياسة الأوروبية تعتمد على أسلوب الردع والعقوبة، وعادة ما تقترح على الدول التي يدخل منها المهاجرون إعادتهم إليها، وإقامة مراكز إيواء ومحتشدات في هذه الدول، غير أن هذه السياسة أثبتت فشلها. وبهذا، وجب النظر إلى هذه الهجرة، في إطارها الإنساني البحت، إذ لا يترك أغلب المهاجرين الأماكن التي يعيشون فيها، إلا بدوافع الحاجة والفقر. ومن هذا المنظور، يجب تقديم الحلول لهذه المشكلة، حتى تؤتي نتائجها، وإنْ على المدى البعيد، خصوصاً أن هناك تقارير تتحدث عن زيادة نسبة المهاجرين في السنوات المقبلة أضعاف ما هي عليه الآن، ما يجعل حلول التنمية والاستقرار أكثر نفعا مما عداها، وبدون إغفال الحلول التي تكون على المدى القريب بمراقبة الحدود ومساعدة الدول التي تدفق منها المهاجرون على مراقبة حدودها، والتي هي في أشد الحاجة إلى الإمكانات التكنولوجية الأوروبية في هذه الظروف الأمنية التي تمر بها هذه البلدان، وخصوصاً ليبيا.
وعموما، تضم الهجرة غير الشرعية في طياتها معاناة المهاجرين أنفسهم بتعرضهم للموت المحقق، عبر قوارب الموت التي تبتلعها البحار، أو حتى ما يتعرضون له في الصحراء، عبر رحلات شاقة يمرون بها، من معاناة لا حصر لها، أملاً في تحسين أحوالهم المعيشية. وسرعان ما يختفي هذا الأمل، حتى وإن وصلوا إلى دول الاستقرار في نظرهم، إذ يستغلون في أبشع صور الإنسانية والحرمان من أبسط الحقوق، ويحتم عليهم الوضع التعايش في فرار دائم من السلطات المحلية، حتى وإن كان برتوكول الأمم المتحدة المتعلق بالمهاجرين غير القانونيين يمنع تجريم فعل الهجرة، أو العيش بصفة غير قانونية لأولئك المهاجرين، إلا أنهم يعيشون في نقيض من ذلك، عن طريق الاستغلال البشع في الأعمال الشاقة، وحتى غير المصرح بها، إذ تصل في بعضها إلى مراحل الاسترقاق والاستعباد، في دول الاستقرار التي يقصدونها.
ومن هنا، وعوداً على بدء، فإن استقرار دول جوار البحر المتوسط، ومن أهمها ليبيا الآن، هو أنجح سبيل للتقليل من هذه المشكلة لدول الاتحاد الأوروبي. وهذا لا يتأتى إلا بدعم الحوار القائم في البلاد، والابتعاد عن دعم أحد الأطراف على حساب الآخر، لأنه يكرس هذه المشكلة ويفاقمها، وينتج عنها تبعات يصعب الحد منها، في المنظور البعيد، ناهيك عن القريب.