الأرشيف: صندوق باندورا

13 يونيو 2016
"الأرشيف" يماثل إعادة سرد حكايات أعمارنا (Getty)
+ الخط -
كثيراً ما أمضي وقتاً أقلّب فيه صفحات وصفحات من دوريات قديمة، مستقصياً باحثاً عن مسألة ما يُثار سِجالٌ حولها الآن، علّني أعثر على جذرها الأول. ففي تلك الدوريات مُصْفَرَّة الورق مجالات رحبة للاكتشاف والإمساك بجذر عديد الموضوعات التي يجهل مناقشوها اليوم أصولها. في الأكداس المرتبة داخل مكتبتي، في الأعداد المنسيّة التي أغبطُ نفسي لاحتفاظي بها، والتي يناسبها تسمية "الأرشيف" - بمعنىً معيّن - تكمن كنوزٌ ولُقى نادراً ما نجدها في دوريات اليوم ومجلاته.

تبدأ حالة البحث والاستقصاء مسبوقة بغاية محددة أعرفها تماماً، غير أنني كلّما مضيت بالتقليب والفرز، أجدني ابتعدتُ تدريجياً عن تلك الغاية أو الهدف، وتشعبتُ بدافع الفضول باتجاهات لم تكن خطرت لي! تعيدني الصفحات المتقلبة بين يدي إلى ما كنتُه أنا في تاريخ صدورها، إما بقراءتي لتعليقاتي المدونة على هوامش الصفحات، أو تحديقي بالصور العتيقة العاملة على بثّ الحيوية لذكريات وحكايات وأشخاص تلك الفترة. أجدني في "تفضيلاتي"، في ما كان يشكّل سُلَّم أولوياتي! أسهمُ متأملاً كيف يجرفنا نهرُ الزمن نحو ضِفافٍ ما كانت ضمن مقاصدنا. ثم أراني أفكّر: ماذا كنتُ أريد أن أصبحَ، وما الذي أصبحتُ عليه؟

الأرشيف عند النبش فيه خطير، لأنه بقدر ما يعيدنا إلى لحظاتٍ نائية عنا ومنسيّة؛ فإنه يفضح قصور رؤيتنا للعالم عندما يُظهر أنّ كثيراً مما كنا نضعه على هامش اهتماماتنا بات اليوم محور حياتنا غير المكتمل! موضوعات أكلَت أوقاتاً من إعمارنا نفكّر بها لنكتشف، ربما بعد فوات الأوان، أنّ ما أهملناه في ذاك الوقت صرنا بأمسّ الحاجة للتدقيق فيه الآن!

إنّ تقليب أوراق "الأرشيف" يماثل إعادة سرد حكايات أعمارنا، والضحك منها أو عليها.
لِمَ لا نقول الكلام الأدقّ: الضحك منا وعلينا؟
يا لهذا الأرشيف من كائن خطير ينتظر مَن يفتحه ليسارع، من فوره، بالانفجار في وجهه، كأي طرد ملغوم أرسله زمنٌ متآمر! إنه صندوق باندورا!
هذا أحد أوجه الأرشيف إذا ما قمنا بـ"التحرش" بأوراقه.

هنالك وجه آخر أكثر إثارة لأن نتوقف عنده ومساءلة أنفسنا أولاً، ومساءلة سوانا، وخاصة كثرة الواهمين بخلود اللحظات الراهنة التي يعيشون "أمجادها"! - وبالمناسبة: هنالك أعداد لا تُحصى من هؤلاء الواهمين، يجدر بنا دفعهم لقراءة ما يلي:
يشتمل الأرشيف، كذلك، على وجوه وأسماء وشخصيات شكّلَت جزءاً من الرأي العام - أو كانت، بسبب "أحجامها وأهميتها وشهرتها"، من "اللوازم الضرورية" في استكمال المشهد -فكرياً كان أو ثقافياً أدبياً! عندها نضطر لأن نتوقف ونقرأ كلاماً "كبيراً".

ولا تبخل علينا أوراق الأرشيف بعدد معقول مما يستحق التوثيق، إلى جوار عدد أكبر بكثير جدير بالرثاء.. إنْ لم نكن قُساة فنقول: جديرٌ بالذهاب إلى جحيم النسيان التام! نجوم، وأبطال، ومراجع موثوقة، وصُنّاع رأي، وطَبَّاخو تذوق فني، ومُشَرِّحو نصوص، وواضعو مناهج نقدية، إلخ. كلّ هؤلاء الكُثر، المحتلين لأوراق الأرشيف العائد لزمن أمجادهم، باتوا اليوم نسياً منسياً، ولم يتبق من "إنجازاتهم" العظيمة إلّا رائحة أوراق بدأت تطقطق، وتتكسر إذا ما قلّبتها برعونة، ثم تتفتت متحللة.. كأيّ جثة!

ثمّة قَوْل للياباني حائز جائزة نوبل للآداب 1968، يوكيو ميشيما:
"البشر صنفان: صنف يتذكّر، وصنف يتذكّره الآخرون".
ونحن، على ضوء هذا القول، نجدنا نقول إننا لسنا مُجْبَرين، بوصفنا الـ"الآخرون"، بتذكّر هؤلاء المصنوعين. غير أنّ من حقنا وواجبنا الأخلاقي أن نتذكّر أوراق الأرشيف، ففيها الشهادة الشاهدة على زمنٍ ينبغي، عند استعادته، أن يخضع للنقد العقلي الجَسور الذي لا يهاب ظلال الماضي وأشباحه. وراهننا لحظة هذه الكتابة وقراءتها، سيتحوّل إلى ماضٍ وسيخضع، بدوره، للنقد العقلي.. فلننتبه.

(كاتب وروائي أردني)
المساهمون