الأردن وجهاً لوجه مع التوحش الإسرائيلي

29 يوليو 2017
+ الخط -
بينما كان الأردنيون يتفاعلون، بمستويات مختلفة، مع انتفاضة القدس، وفيما كانت إجراءات الاحتلال تغلق الأبواب أمام أي حل ينهي الإجراءات الشاذّة التي اتخذت حول المسجد الأقصى، جاءت جريمة قتل حارس أمن يتبع للسفارة الإسرائيلية مواطنيْن أردنيّين، أحدهما نجّار والثاني طبيب يملك الشقة التي وقعت فيها جريمة القتل الثنائية، لكي تطلق موجة من البلبلة والغضب. البلبلة بسبب ارتباك الموقف الحكومي إزاء الجريمة منذ ظهيرة الاثنين، 23 يوليو/ تموز الجاري، وإصدار بياناتٍ تفتقر إلى الاتساق، والغضب لأن القاتل تمكّن من مغادرة الأراضي الأردنية مع كامل طاقم السفارة الإسرائيلية، عبر جسر الشيخ حسين في شمال البلاد، والذي يمثل نقطة الحدود مع دولة الاحتلال. وفي اليوم التالي، كان رئيس وزراء الاحتلال، بنيامين نتنياهو، يزور منزل القاتل الذي لم يجر الكشف عن اسمه، ويعانقه ويتبادل معه حديثا مفعما بالانشراح والارتياح، لقيامه بارتكاب جريمة القتل. وكانت الأنباء قد تحدّثت عن اتصال هاتفي بين نتنياهو والقاتل يوم وقوع الجريمة، حيث تمّت طمأنة الأخير بأنه سوف يعود إلى البلاد، وقد عاد بالفعل، ولقي ترحيبا حارّا من نتنياهو وكأنه "أسير مُحرّر"، على ما قال وزير الخارجية الأردني، أيمن الصفدي الذي اعتبره عاراً.
من جملة البيانات الحكومية، يتضح ان ضغوطا قد تعرّض لها الأردن من (دول كبرى)، من أجل إطلاق سراح القاتل. فيما تحدثت الأنباء أن المقصود هي الولايات المتحدة، من خلال اتصالات رفيعة المستوى جرت بين الجانبين.. ومع إدراك وجود علاقات تحالفٍ بين واشنطن وتل أبيب، فإن تساؤلاً يظل معلقا بشأن طبيعة الضغوط التي جرت من أجل إفراج سريع عن قاتلٍ لم تبرد بعد دماء ضحيتيه. علما أن الولايات المتحدة، على الرغم من هذا التحالف مع تل ابيب، أبقت على الجاسوس الإسرائيلي جوناثان بولارد 30 عاما في سجونها، رافضة كل الضغوط الإسرائيلية التي بذلت لعقود، إلى أن تم إطلاق سراحه بعد إنهاء محكوميته في العام 2015.
يعتبر الأردن أن القضية لم تنته، وأنه سيواصل إجراءاته القانونية ضد حارس الأمن 
الإسرائيلي. وبالخبرة المتأتية من متابعة السلوك الإسرائيلي في مثل هذه الجرائم، فإن المستوى السياسي الإسرائيلي لا يعتبر قتل مواطنين عرب جريمةً أو جناية، بل مجرّد جنحة. وقد أفادت السلطات الإسرائيلية، عقب زيارة نتنياهو بيت القاتل، أنها ستجري تحقيقا مع حارس الأمن، واستخدمت تعبير "تحقيق تحت الحذر"، من دون توضيح ماهية هذا التعبير. لكنه يشي بقدرٍ من التحفظ يضعف الصفة التحقيقية من جهة، ويحاول التطويق المبكر لخطوات أردنيةٍ لاحقة محتملة من جهة ثانية. وليس معلوما الآن الآلية التي ستتبعها الحكومة الأردنية لمتابعة القضية، بعد أن أضعفت موقفها بالإخلاء السريع.. وحيث لم يقتنع الشارع بالتبرير الرسمي حول مسوّغ إخلاء سبيل القاتل بعد التحقيق الذي جرى معه، وهو المسوّغ الذي يستند إلى اتفاقية فيينا للعام 1961 التي تنظم عمل البعثات الدبلوماسية، فالجريمة وقعت خارج مبنى السفارة الإسرائيلية في مبنى سكني يقيم فيه حارس الأمن. كما أنه ليس معهوداً أن يتمتع حارس أمن بصفة دبلوماسية حتى تنطبق عليه المزايا الدبلوماسية.
إنها قضية غير مسبوقة. وبالمقارنة بينها وبين محاولة اغتيال خالد مشعل في عمّان عام 1997، وإطلاق سبيل الفاعلين الإسرائيليين في مقابل إطلاق زعيم حركة حماس الراحل أحمد ياسين، ففي تلك الحالة تم إرغام السلطات الإسرائيلية سريعا على الكشف عن المادة السامة التي تم إطلاقها على مشعل، كما تم إرغام تلك السلطات على تحديد العقار الذي يبطل مفعول المادة السامة، وإحضاره على جناح السرعة، لإنقاذ حياة مشعل، وهو ما تم، ثم جرى إخلاء سبيل ياسين والقتلة الإسرائيليين بالتزامن.
في وقت لاحق، أعلن مصدر أردني مسؤول أن عمّان لن تسمح بعودة طاقم السفارة الإسرائيلية إلى عمّان، قبل تقديم قاتل الأردنيين إلى المحاكمة، وهذا تطوّر جيد على القضية، من شأنه تهدئة الخواطر.
تل أبيب وعمان نفتا، في بياناتٍ منفصلة، أن تكون هناك مقايضة أو صفقة، لإخلاء سبيل حارس الأمن مقابل رفع الإجراءات المتخذة ضد الأقصى، لكن الأردن لعب دورا مهما قبل وقوع الجريمة في منطقة الرابية، في كبح جموح الاحتلال وإزالة البوابات الإلكترونية، وقد تضافر هذا الدور مع ضغط الهبّة الشعبية البطولية الرامية إلى إنهاء كل الإجراءات الاحتلالية الشاذة في المسجد الأقصى وما حوله. وكانت السعودية، من جهتها، قد أشارت إلى دور قامت به، لإلغاء الإجراءات الإسرائيلية.
ويجد الأردن الرسمي نفسه الآن في وضع حرج، فهناك تفاعلاتٌ شعبية ناقمة على إخلاء سبيل حارس الأمن، والتوتر يسود علاقات عمّان بتل أبيب، والقنوات الدبلوماسية غير سالكة، ومن شواهدها مغادرة كامل طاقم السفارة الإسرائيلية، من دون ورود أنباء عن عودة طاقم السفارة الأردنية في تل أبيب إلى عمّان. وبينما كان الأردن يواجه التحدّي الإسرائيلي في القدس، كونه 
وصياً على المقدّسات الإسلامية والمسيحية فيها، وفقاً لاتفاقية أردنية فلسطينية، أضيفت إلى ما نصت عليه المعاهدة الأردنية الإسرائيلية لعام 1996 بهذا الخصوص، فقد انفجرت جريمة القتل المزدوجة في عمّان كي يُضاف التوحش الإسرائيلي في العاصمة الأردنية إلى الصلف الجاري في بيت المقدس، فالقضيتان مترابطتان، من حيث الفاعلون والتوقيت المتزامن. لكنهما في الوقت نفسه منفصلتان، فحارس الأمن الاسرائيلي أراد استعراض القوة الغاشمة بإطلاق النيران الحيّة على شاب نجّار (محمد الجواودة 17 عاما) وعلى الطبيب بشار حمارنة (52 عاما). ومن الواضح أن هذه هي عقيدة الأمن الإسرائيلي، ومفادها: حين يكون الطرف الآخر عربياً، وما إن تنشأ مشكلةٌ ما معه، قُم بإطلاق النار أولاً، ثم فكّر بعدئذ بما يمكن أن تفعله.
وكان بيان حكومي أردني قد تحدث، في غمرة ارتباك الساعات الأولى، عن طعن المغدور الجواودة حارس الأمن بمفكّ، وتبيّن أن هذا الحارس الذي جرى تصويره واقفاً وجالساً في بيته لدى استقباله نتنياهو، بصحة جيدة.
شكلت الجريمة المزدوجة استفزازا هائلاً للأردنيين، كونها غير مبرّرة، وترتدي طابعاً استعراضياً مقيتاً للقوة، يميز جرائم عصابات الشوارع، ولأنها تبرهن مجدّداً على أن دولة الاحتلال لا تقيم وزناً للأعراف، ولا لحياة مواطني دولة عربية، تقيم معها معاهدة سلام. وإذ تتزامن الجريمة مع التعدّيات الجسيمة على الأقصى التي تثير المشاعر الوطنية والدينية معا، فإن الفترة المقبلة مرشحةٌ لأن تشهد تفاعلاتٍ شعبية ورسمية، وخصوصا مع القناعة شبه التامة للأردنيين، من مختلف الشرائح، بأن تل أبيب سوف تبذل كل ما تملك يمينها لحماية القاتل الذي أحيط بالتوقير والتهليل، ما إن عاد إلى بيته، ما ينبئ عن اتجاه التعامل الحكومي والقضائي معه لاحقا في تل أبيب. ولهذا، فإن مراجعة العلاقات الأردنية الإسرائيلية (باتجاه تقليص هذه العلاقات بصورة ملموسة) تفرض نفسها خيارا موضوعيا للدفاع عن النفس، تمليه هذه التطورات، ولتفادي تداعيات حالة الاحتقان التي تُطبق على الشارع الأردني.
محمود الريماوي
محمود الريماوي
قاص وروائي وكاتب سياسي من الأردن.