الأردن في "معضلة" الحرب على داعش

09 فبراير 2015

معاذ الكساسبة ..

+ الخط -

رسم الموقف الشعبي في الأردن لوحةً موحّدة في الرد على الشريط المصوّر لاغتيال معاذ، ووجدت أجهزة الدولة نفسها أمام ردّ فعلٍ، يتجاوزها في الدعوة إلى الانتقام والوقوف في وجه داعش، بعدما كان هنالك انقسام حاد في الأوساط الشعبية والسياسية، سابقاً، بين من يرى أنها حربنا ومن يرفض الانخراط في الضربات الجوية ولا يريد توريط الأردن بحرب تتم بـ "الوكالة" في المنطقة.

تفوقت ردود الفعل الشعبية ضد داعش على أيّ محاولة تعبئة رسمية، إذ أصدرت جماعة الإخوان المسلمين، القوة المعارضة الرئيسة في البلاد، بياناً مندّداً بسلوك داعش في قتل معاذ، وأمّ قادتها بيت العزاء، ووصف بعضهم، للمرّة الأولى، داعش بالتنظيم الإرهابي. وتمثلت المفاجأة لدى الإعلاميين في ردود فعل التيار السلفي الجهادي نفسه، فقد تجاوز المستوى المعهود في الخلافات مع داعش، إلى توجيه نقد شديد لها، عبر الإعلام، وصولاً إلى الزعيم الروحي للتيار، أبو محمد المقدسي، الذي أخرجته السلطات الأردنية (في لعبة ذكية) من السجن إلى الهواء مباشرةً على تلفزيون محلي، ليتحدث عن وساطته في موضوع داعش، ويصف قياداتهم بالكاذبين والمخادعين، وهو الموقف نفسه الذي اتخذه المنظّر الآخر للتيار الجهادي، أبو قتادة الفلسطيني.

تمثل الردّ الحكومي الأردني عملياً بإعدام ساجدة الريشاوي وزياد الكربولي (العراقيين المحكوم عليهما بالإعدام في الأردن) على خلفية قضايا متعلقة بالتنظيم، وبتنفيذ طلعات جوية عديدة على مناطق يسيطر عليها التنظيم، وبرفع مستوى الخطاب الإعلامي والسياسي إلى مرحلة إدخال المجتمع في أجواء الحرب على التنظيم.

إلى غاية الآن، يبدو ردّ الفعل الأردني متوقعاً ومنطقياً، لكن السؤال، المطروح حالياً، هو إلى أي مدى في نطاق الحرب والوقت، يفكر الأردن في خوض هذه الحرب؟ فهل سيقف عند مرحلة توسيع مساحة الدور الذي يضطلع به في تنفيذ الطلعات الجوية، أم يفكّر في ما هو أبعد من ذلك؟ وهل يمكن الوثوق في التحالف الدولي والإقليمي في هذه الحرب، أم أنّ الأردن يتكئ على جدار آيل للسقوط وتحالف هشّ؟

في غمرة الصدمة الشعبية الأردنية، والغضب السياسي من جريمة داعش بحق الطيار الكساسبة، ووسط دعوات شعبية عارمة بالانتقام والردّ؛ بدأت هذه الأسئلة تفرض نفسها على السياسيين والمحللين في عمّان، فهنالك قيود ومحددات ومخاوف هائلة تتكاثر، كلما زاد تورّط الأردن في هذه الحرب، في ظل ظروف معقّدة ومركّبة ومصالح دولية وإقليمية متضاربة.

في حال قرّر الأردن أن يتوقف عند هذا الحدّ من رد الفعل، فليس من المؤكّد أنّ الرأي العام الذي وجد نفسه في وسط أجواء غضب هستيرية سيكون مقتنعاً بذلك، وإذا ما بردت نيران صورة الطيار وهو يحترق، ما هي الأسئلة والمشاعر التي ستحلّ محلّها، هذا من ناحية. وليس مؤكداً، من ناحية أخرى، فيما إذا كانت داعش ستقف عند هذا الحدّ، أم أنّها ستسعى إلى توريط الأردن وإدخاله في المعركة أكثر وأكثر، كما يذهب محللون أميركيون، سعياً إلى إحداث انقسامات داخلية، وتعزيز الصوت الشاب الغاضب في البلاد؟

لكن، ماذا لو قرّر الأردن أن يستمر في الحرب على داعش، والمضي خطوات إلى الأمام؛ ما هي هذه الخطوات؟ عمليات نوعية عسكرية؟ مضاعفة الجهود الأمنية؟ توسيع نطاق الضربات الجوية أكثر وأكثر؟

ذلك كله وارد، مع استبعاد كامل لأيّ حديث عن تدخّل برّي أردني، فهو يتجاوز نطاق قدرات الدولة العسكرية، ويدخلها في معمعة أكبر من حجمها بكثير. لكن، حتى الخيارات السابقة، ليست بلا مخاطر، أو كلفة كبيرة ومجازفة؛ فماذا لو وقع السيناريو الأسوأ، لا قدر الله، فوقع جنود أردنيون آخرون أسرى بيد تنظيم داعش؟ فمثل هذا المشهد سيكون خطر جداً، بخاصة أنّ ما حدث مع معاذ أظهر أنّ الشارع الأردني ليس مستعداً لكلفة أي حرب عسكرية، لأسباب عديدة، في مقدمتها أنّ هنالك أزمات داخلية كبيرة في البلاد.

ما هو أهم من هذا وذاك، وربما هو أحد أكبر الهواجس التي تقلق الأردنيين اليوم، يتمثّل بالموقف العربي والدولي، فمن الواضح أنّ الأردن يتعامل مع تحالف هشّ، وإدارة أميركية لا تمتلك استراتيجية واضحةً، لها أهداف ثابتة واقعية تجاه ملفات المنطقة، والتفاوت في مصالح الحلفاء والشركاء في الحرب الراهنة؛ ما يجعل ما يحدث أقرب إلى الصراع السياسي- الطائفي بالوكالة!

ولا يقل وضع الحلفاء العرب ضعفاً عن الآخرين، فهنالك تراجع كبير في الحماس العربي في المشاركة العسكرية ضد داعش، وتباين في المصالح والآراء، واختلافات عميقة بدأت تصعد بقوة إلى السطح في "المعسكر العربي المحافظ" نفسه، فضلاً عن القلق العربي الشديد من التقارب الأميركي الإيراني التي تهدد الأمن القومي العربي، ليس فقط في العراق وسورية، بل حتى في اليمن، وفي داخل دول الخليج العربي نفسها، والفجوة الشاسعة مع الموقف التركي الإقليمي القوي.

ما يقلق المسؤولين الأردنيين، ولا يصرّحون به في العلن، هي ردود الفعل الباهتة المتواضعة من حلفاء الأردن العرب على جريمة قتل معاذ، وعلى تقديم الدعم المعنوي والمادي إلى الأردن، فما أبدوه أقل بكثير مما يبديه الأردن لهؤلاء الحلفاء في الأزمات والمنعطفات، ما يعزز من الشعور بأنّ التحالف العربي المحافظ في مرحلة هشّة وضعيفة هو الآخر.

بالطبع، مثل هذه المحددات كفيلة بإثارة هواجس الأردن وقلقه الشديد من تورطه أكثر في الحرب مع عدم وجود سند حقيقي، إذا لم نتذكر الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي يتعرض لها الأردن مع اللاجئين السوريين وضعف المواد، ما يجعل من الطلعات الجوية وحدها ذات كلفة مالية كبيرة على خزينةٍ، تعاني الأمرّين في تدبير الرواتب الشهرية وتوفير الخدمات الأساسية.

يتجاوز سؤال الكرامة الوطنية في الأردن أي اعتبارات. هذا بكل تأكيد، لكن الدخول في مرحلة جديدة وحرب متعددة الأبعاد يتطلب أرضية واضحة، تتجاوز الغموض والتعقيدات والمساحات الملتبسة الواسعة التي يجد الأردن نفسه محاصراً فيها اليوم.

محمد أبو رمان
محمد أبو رمان
أستاذ العلوم السياسية بالجامعة الأردنية والمستشار الأكاديمي في معهد السياسة والمجتمع.