الأردن.. رحلة الموت وجدل الغمر والباقورة

29 أكتوبر 2018
+ الخط -
لم يكن الأردنيون يحسبون أن فرحتهم بهطول المطر بعد انحباس وتأخر موسمي سوف تتلاشى وتنقلب إلى حزن عام، بعد رحلةٍ مدرسيةٍ وصفت برحلة الموت إلى البحر الميت يوم الخميس الماضي، وفي الحصيلة النهائية هناك 21 حالة موت و35 إصابة، معظمهم من الأطفال. وقد بدأت كأي رحلة، وتزامنت مع رحلات أخرى إلى منطقة البحر الميت، لكن الرحلة التي نظمتها مدرسة خاصة، بالتعاون مع شركة خاصة للترفيه، استهدفت، وفق معلمة أنقذت مجموعتها الطلابية، المسير باتجاه عكس نهر زرقاء ماعين، والصعود إلى مصب الشلالات بعد نحو ست ساعات، لتداهمهم المياه والطين فجأة، وتبدأ مشاهد الوجع، مع جرف السيل الهادر بعض الطلاب أمام ناظر زملائهم ورفاقهم.
لم تكن الحكومة لتعلم بالرحلة، حتى باشرت التحرك بأقصى طاقاتها، والبحث عن مسؤوليةٍ تُلقى على أحد المعنيين، وكانت النتيجة الأولية كما غرد رئيس الحكومة، عمر الرزاز، أن المدرسة غيرت مسار الرحلة من الأزرق (وهو منخفض وواحة صحراوية شرق عمان) إلى زرقاء ماعين، وهي المنطقة التي يرتادها السياح المغامرون في ظروفٍ ملائمة عادة. وفيما بعد، كُشفت أوراق أخرى، تفيد بأن المدرسة شرحت للوزارة في الأوراق التي توالت بالظهور أن مسار الرحلة يستهدف وادي الأزرق والوصول إلى مأدبا، وهو المسار المنطقي في الصعود من أسفل الوادي إلى أعلى مصبه. وهنا تتهافت رواية الحكومة، ويكون الخلاف في التسميات فقط.

المعضلة أن معظم المؤسسات الحكومية والإعلام حمّلت المدرسة المسؤولية، لكن رواية وزير التربية والتعليم (والتعليم العالي) الذي تنشط المطالبات الشعبية بضرورة استقالته، وتحمّله المسؤولية الأخلاقية، عادت لتضيف اضطرابا آخر للنص الرسمي، حين أفاد بأن الوزارة لم تكن تعلم حقيقة الظروف الجوية، فيما كان رئيس الحكومة قد زار، قبل يومين من الفاجعة، مديرية الدفاع المدني، وغرّد مفتخرا بدولة المؤسسات التي تستعد لموسم الشتاء!
وفيما المدرسة ترفض إدانتها الكاملة، وبعد تشكيل الحكومة لجنة تحقيق برئاسة نائب رئيس الحكومة، رجائي المعشر، تبقى الحالة العامة للبلاد تنتظر إجابات عن المسؤولية الكاملة للخروق والفجوة التي تحدّثت عنها الوزيرة الناطقة باسم الحكومة، جمانة غنيمات، والتي حدثت في التعليمات للرحلات المدرسية وتطبيقها، ويُضاف إليها الـتأخر في الصيانة للبنية التحتية، وغياب نظام الإنذار المبكر الذي لم يطلق صافراته في تلك المنطقة الوعرة، وكذلك دور وزارة السياحة في إخلاء المتنزهين من تلك المنطقة، كما فعلت دولة الاحتلال في اليوم نفسه في مناطقها المشابهة طبوغرافيا، لا بل تذهب الأسئلة عن الشركة المنظمة لمسار الرحلة، وهي شركة سياحية خاصة.
طالب العاهل الأردني، عبدالله الثاني، بالإجابة عن هذه الأسئلة، وهو الذي التقى المسؤولين، وحذّر من التهاون في التعامل مع القضية، وبدا في حالة غضب شديد من النتيجة التي آلت إليها الرحلة الأليمة التي ستضاف إلى تاريخ الفيضانات ونكباتها في الأردن، والتي توثقها الذاكرة بفضيان مدينة معان عام 1963 الذي نتج عنه ثماني وفيات، وتلاه فيضان البتراء في العام نفسه، وغرق فيه 27 سائحاً فرنسياً، وفي عام 1966 قتل 95 شخصاً في فيضان آخر، داهم مدينة معان. وفي العام نفسه، كانت منطقة ماعين، وهي نفسُها منطقة رحلة الموت الخميس الماضي، تفقد 259 شخصاً. وفي 1987 قتل تسعة أشخاص في مدينة الزرقاء جرّاء السيول الجارفة، فيما أدت السيول عام 1991 في الكرك والطفيلة إلى مقتل ثمانية أشخاص. وفي 1994، قتل في مدينة الرمثا تسعة أشخاص، بسبب السيول المفاجئة.
وفي أزمة الحديث اليوم عن رحلة الموت، تبدو الأمور مختلفةً، ففي الماضي لم يكن الرأي العام متبلورا كما هو اليوم، حيث يشهد المجتمع الأردني حالة غضبٍ وتضامن عربي معه، وبالتالي تزداد الحاجة لإجابة عن المسؤولية وضرورة الحساب، بعدما شهد الناس أكثر من رواية حكومية، لتحديد المسؤولية وتسرّع في بث أوراق الرحلة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، والتي لا تقدم صياغة محكمةٍ للرواية بشكل كامل.
في مقابل هذه الحادثة الأليمة، كان المشهد الأردني يشهد جدل القرار الذي اتخذه الأردن بعدم الاستمرار في تأجير أراضي الباقورة والغمر، والبالغة مساحتهيما مجتمعتين 5055 دونما. وقد احتلت الباقورة بعد النكبة مباشرة العام 1949، والغمر بعد النكسة العام 1967.
وبعد قرار الملك عبدالله الثاني، والذي سبقته حملاتٌ ومطالب شعبية بإبلاغ الطرف الإسرائيلي بعدم الاستمرار بوضع المنطقتين الذي قرّرته ملاحق اتفاقية وادي عربة، وحسب المادة 6 من الملحق التي تقضي بإبقاء الأرض بحق الاستخدام 25 سنة، على أن يُبلغ أحد الطرفين نيّته عن إنهاء الوضع قبل سنة، ثم الدخول بتفاوض التسليم، فإن قانونيين أردنيين، في مقدمهم الخبير الدولي، أنيس القاسم، يرون أن إسرائيل سوف تماطل، على الرغم من أن الملحق الخاص
بالمنطقتين يعد في الأصل "اتفاقا مؤقتاً". وذهب القاسم إلى أن التسليم يجب أن لا يستمر أشهرا، وأن النصوص واضحة، وأن وجود ملكياتٍ خاصةٍ ليهودٍ لا يعطل الاتفاق، بل تسري عليها الأحكام والقوانين الأردنية، ونبّه قاسم إلى أن مسألة الباقورة والغمر تختلف عن قضية طابا المصرية التي لجأت فيها الحكومة المصرية آنذاك إلى التحكيم الدولي.
وقد جاء قرار الأردن الذي عدّ انتصارا للسيادة الأردنية، في توقيتٍ مهم شعبياً وسياسياً بالنسبة للملك عبدالله الثاني، وهو لا ينفصل عن توتر العلاقات مع دولة الاحتلال، والتي كان منها حادثة السفارة الإسرائيلية في عمان في يوليو/ تموز 2017.
وفي الطرف المقابل، نشطت إسرائيل في التعبير الرافض قرار الأردن، وهو ما جاء على لسان وزير الزراعة الذي هدّد بقطع المياه عن العاصمة عمّان، فيما تحدّث رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، عن مفاوضاتٍ مع الأردن. وهنا تم السؤال عن جاهزية الطرف الأردني، وكيفية تشكيل وفد التفاوض، وهل الخارجية الأردنية مستعدّة جيدا؟ وقد انتقد المنسّق العام للوفود الأردنية بشأن اتفاقية وادي عربة ومفاوضات مدريد، الوزير الأسبق إبراهيم بدران، إهمال الخارجية الأردنية لمتابعة اتفاقية السلام فنياً منذ توقيعها. وأفاد بأنه طالب، حين ترك عمله في الخارجية، بايجاد مكتب متخصّص لمتابعة قضايا الاتفاقية وملاحقها؛ لأن إسرائيل لا يُؤمن جانبها برأيه، ولأنها تعمل بشكل أفضل، ولديها رهانٌ على التفاوص أو تعطيل التسليم والمطالبة بتعويض مالي في ظروف اقتصاديةٍ أردنيةٍ حرجة.
F1CF6AAE-3B90-4202-AE66-F0BE80B60867
مهند مبيضين
استاذ التاريخ العربي الحديث في الجامعة الأردنية، ويكتب في الصحافة الاردنية والعربية، له مؤلفات وبحوث عديدة في الخطاب التاريخي والتاريخ الثقافي.