الأردن: الشعب للرزّاز؛ شكّل حتى نراك

21 يونيو 2018
+ الخط -
بعد محادثاتٍ مطوّلة ومستفيضة. مشاورات. تلفونات من هنا وهناك، من فوق وتحت، من اليمين واليسار. لقاءات حزبية ونقابية، على الهامش وعلى المتن. تكهنات وتسريبات إلى مواقع التواصل الاجتماعي لجسّ النبض والحرارة، والضرب على الركب والمفاصل لمعرفة رد الفعل. تضرّعات وتوسّلات كتوسلات الغلابة بالأبطال الأسطوريين، ودفعات معنوية بمئات الآلاف من "البوستات" والمنشورات والنصوص. تأليه وتمجيد وتعلّق ببعض القش وحبال الهواء. بعد ذلك كله، خرج الرّزاز أخيرا إلى الأردنيين بفريقه الوزاري، ليس خروج الفاتحين، وإنما خروجا، أقرب ما يكون، إلى حادثةِ ضيف أبي حنيفة. أو تلك الحادثة التي دفعت سقراط ليقول لضيفه، تحدّث حتى أراك. 

تلك المدة الزمنية، التي أخذتها المحادثات المطوّلة، التي امتدت لعشرة أيام مارثونية، توحي بحجم الفساد المُستشري بمؤسسات الدولة على صعيد المحسوبيات واللوبيات، ولعبة شد الحبل والتّمسك بالبساط، وبعفونة واهتراء مراكز الضّخ والتزويد بالمسؤولين والمتنفذين، عشرة أيام لم يخرج بها الرزاز، على ما يبدو إلا بحصةٍ ضئيلةٍ من الولاية، كما لو أنهم رموا إليه بالفُتات، ليلتقطه، كالديك المسالم، دون أية ضجّة تذكر، وكما لو أن كتاب التكليف السامي، كان مجرد حبرٍ على ورق، للاستهلاك الإعلامي والبروباغندا فقط. كان الملك يريد وجوها جديدة، ودماء شابة.

في عهد الملقى ومن قبله وربما لأكثر من عقد، كنا في مرحلةِ ما يسمى بعُنق الزجاجة. ياه ما أقساها من مرحلة، الجميع يدرك حجم الهول في هذه المرحلة، إنها مؤلمة جدا بما تقتضيه من اعتصار للأجساد وتأقلم على هيئة العنق الضيّق، ولطالما تأثّر الملقى ورفاقه لذلك، وطلب منا، وهو يُدخّن السيجار الكوبي، أن نتحمل وخز ذلك الألم الذي لا يمكن احتماله بأي شكل من الأشكال.

 ولأجل هذا السبب، الخروج من عنق الزجاجة، جوّعونا بما فيه الكفاية. السّمان لا يخرجون من أعناق الزجاجات. الرزار، شقيق الروائي الأردني الراحل، مؤنس الرزاز، صمت دهراً ونطق كفراً، فقد قال، بعد أداء القسم "الحكومة الجديدة ليست حكومة تَغيُّر وجوه".

 نظرة عامة على تلك التشكيلة، تجد أنها مكونة من خمسة عشر وزيراً من حكومة الملقى، المطرودة أخيراً من الشعب، حكومة أهل الكهف، فقد كانوا نياماً كما وصفهم الملك، اللهم إلا "أكمّن" واحدا، كما أكد أيضاً. لدرجة أن أحدهم تساءل بعد أن أُقيل: كم لبثنا؟ وآخر صرّح بأنهم كانوا حرّاس مرمى لا أكثر. لكن أي مرمى ولأي فريق؟ ربما خانه التعبير، فهم حراس شركات ومصالح ونفوذ على وجهٍ أدق، كما هو معروف.

 هؤلاء النيام، استيقظوا على أصوات زلزلة الشارع، تثاءبوا ومطوا أذرعهم في الهواء، ثم أعيدوا إلى كهفهم، من جديد. مع الاعتذار لهم لأجل الإزعاج.

ونظرة أُخرى بسيطة، ليست عن كثب أيضاً، تدرك مدى الشيخوخة والعجز في هذه الحكومة الجديدة، في حين أن من أسقط الحكومة الفائتة، وركلها على قفاها، هم شبّان وفتيات في العشرين والثلاثين من العمر، لديهم أحلام وآمال وطموحات، باتت جميعها على شفير الهاوية السّحيقة، وفي حين أن الغالبية العظمى من هذا الشعب هي من هذه الفئة، مهندسون وأطباء ومعلمون مبدعون ورجال أعمال صاعدون، نجد أن من يحكمهم، من هو في السلطة التنفيذية، هم رجال في العقدين السادس والسابع من أعمارهم، ملتصقين على كراسي الحكم ومدافعين شرسين عن سحبها من تحت مؤخراتهم، منهم من تقاعد من عمله منذ ربع قرن، يسعلون باستمرار ويأخذون أدوية ضغطٍ وسكري، وبعض الحبّات من الفياغرا أيضا.

لماذا يطلبون من هذا الرجل تغير الوجوه؟ لماذا يحرجونه ويلحّون عليه في هذا الطلب الغبي. إن التّعويل الحقيقي يكون، فقط، على الأفعال، الوجوه تروح وتأتي. ما قيمة الوجوه إذاً. إن كانت النصوص المقدسة تفهم بالتأويل، فطلب الملك بتغير الوجوه يفهم بالتأويل أيضا، فكيف لا والرزاز هو من عائلة أدبية ومثقفة، فالمطلوب هو تغير وجوه العمل والخطط والنهج وآليات الخروج من العنق، هذه الوجوه التي يراد تغيرها، لا تلك الوجوه الحليقة أو ذات الذقون الأنيقة، كما هو وجه الرزاز، إن هذه الوجوه المعروفة على قدر كبير من الأهمية، فهم بحاجة إلى تلك الذقون ليمسحوا بها الإساءة الآتية إليهم من الشعب الغاضب. والشعب بحاجة للذقون أيضا. لكي يتم الضحك عليها.  

ما العمل إذاً؟

ما هو واضح أنّ الشّعب المُستاء، المُستقيظ  أخيرا من جرعةِ مخدر، بات في مرحلة الهلوسة الآن، ويعتقدُ، جازما، أن الأمر مغايرٌ تماما لما هو رائج، فعنق الزجاجة قد دخل فيه هو لا العكس. إنه جزءٌ من كوميديا ارتجالية مجهولة المُخرج، الله وحده يعلم ريع التذاكر لمن. إنه يدرك، دون أي مجال للشك، أن الخروج من  ذلك العنق يتم بكسره فقط، لكنه سينتظر مئة يوم على أية حال، عُرفا وليس لشيءٍ آخر، أن تتحدث هذه الحكومة ليراها، أن تُقدم أي بوادر من شأنها أن تُهدئ روعه وغليانه، فإما أن يرفدها ويساندها بكل ما لديه من طاقةٍ وقوة وتحمّل، يشدان أزر بعضهما البعض كالمحاربين الأقوياء المُثخنين بالجراح، وإما أن يمدّ الشعب رجليه كما آن له، ويغذّ السير نحو الدوار الرابع من جديد، يفترش الشارع، ويصرخ بتلك الهتافات نحو الفضاء المفتوح دون سقف، بطبيعة الحال. 

3FDD35D3-6257-48D6-A5FC-516713EC6B25
عثمان مشاورة

قاص وروائي وفنان تشكيلي من الأردن. صدرت له مجموعة قصصية عام 2012، وروايتان "شارع اللغات السعيد" عام 2011، و"مقهى البازلاء" عام 2012.