الأردنيون يهزمون كيس الملاكمة

17 يونيو 2018
+ الخط -
هل كان يدور في خلد مبتكر كيس الملاكمة أن يصبح اختراعه سياسيًّا؟.. هذا السؤال موجّه الآن إلى كيس جديد، تم إشباعه لكمًا ولطمًا حتى السقوط الأخير، ومن ثم نقله على عجلٍ إلى مخزن الأكياس المستهلكة، وإغلاق الباب عليه بإحكام، بعد أن أدّى مهمته بنجاح، وأعني به رئيس الوزراء الأردني، هاني الملقي، الذي تمت إقالته، أخيرا، على وقع التظاهرات الصاخبة التي عمّت مدن المملكة، احتجاجًا على حالة اختناقٍ تسببت بها سياسات حكومته، منذ تسلمه منصبه.
لعل ما كان يدور في ذهن المبتكر إياه أن يحاكي خصمًا بكيس؛ لتدريب الملاكم، وتقويم عضلاته، وإعداده جيدًا لمقابلة الخصوم على الحلبة. أما السياسيون، فقد جعلوا الكيس نفسه خصمًا تنتهي عند لكمه، وإسقاطه المباراة كلها، ولا بأس أن يرفع الملاكم يديه انتصارًا، ويفوز بالكأس، سواء بالجولات أو بالضربة القاضية، لا يهم، بل المهم أن يشعر الملاكم بطعم النصر الخادع.
هذا عينه ما يشعر به "الملاكم الأردني" الآن، بعد سقوط الملقي أرضًا، بالضربة القاضية، فثمّة زهوٌ عظيم بالنصر، لكن على أرض الواقع، لا شيء مما أرهق الأردنيين سقط فعليًّا، فالضرائب ما تزال مرتفعة، وأسعار الوقود تطاول السماء، والحريات مهدّدة، وجيوب الفقر في اتساع، والبطالة على أشدها، ولم يتغير سوى الإتيان بكيسٍ جديد، بدل الأول، لتعود أسطوانة الانتظار من أولها، تحت ذريعة: "أعطوا الحكومة الجديدة فرصة".. وأما الشعب، فيستعد الآن لخوض معركةٍ جديدة مع "خصم آخر"، والظفر بفوزٍ ينضاف إلى سجل "بطولاته" المجيدة.
والحال أن هذا الخداع البصري لا يتوقف على الأردن فحسب، بل يشمل البلدان العربية، ودول العالم الثالث برمتها التي استكانت إلى معطيات "الكيس"، مع فارق أن دولًا كثيرة منها لا تقوى حتى على الاحتجاج على هذا الكيس نفسه. والمعضلة الحقيقية أن بعض "الأكياس" تفوز على الملاكمين حتى، لأن تلك الشعوب لا تحرّك ساكنًا أمام ضرباتها المتوالية.
أما "الخصم" الحقيقي، المختبئ خلف الكيس، فلا أحد يعيره التفاتًا؛ لأنه خصمٌ غير مرئي، تنحصر مهمته في تبديل الأكياس، إذا زاد منسوب الاحتجاج عليها، بل إن بعض أولئك الخصوم لا يتورّعون عن مشاركة الجماهير في لكم الكيس الذي علّقوه؛ ليظهروا لهم أنهم يتضامنون معهم، وأنهم أبرياء من "أفعال" هذا الكيس الذي "خرج على النص"، ولم يلتزم بشروط التكليف والتعيين.
ولربما تبزغ، أحيانًا، بعض الأصوات التي فهمت اللعبة جيدًا، مطالبةً بتغيير النهج ذاته، لا تبديل الأكياس وحدها، غير أنها أصواتٌ خافتةٌ، سرعان ما يطغى عليها صراخ "المحتفلين" بإسقاط الكيس أرضًا، وهذا ما حدث في الحالة الأردنية، بل طاولت اتهاماتٌ عديدة تلك الأصوات الخافتة، من قبيل إنها "أصوات ذات أجندات خارجية"، أو "أصوات تسعى إلى بث الفتنة" و"تدمير البلد"، على الرغم من أن أزمة البلد الحقيقية تكمن في هذا النهج الذي استمرأ التسوّل على أبواب مؤسسات النقد الدولية، ولم يُعر اهتمامًا للتخطيط الاقتصادي القويم، وآثر أن يبقي البلد رهنًا للهبات والعطايا الخارجية، في مقابل أثمانٍ لا يعرفها غير الشيطان ذاته، وهو النهج نفسه الذي لا يسمح إلا بحريات "النص كم".
في مثل هذه الحالة، تتحمل الشعوب المستكينة إلى أكياسها قسطًا وافرًا من المسؤولية؛ لأنها ترتضي الوقوف في منتصف الشوط، ظنًّا منها أنها بلغت خط النهاية، على الرغم من لدغها من الجحر ذاته عشرات المرات؛ إذ سرعان ما يتبدّد وهج "النصر" الخادع، ليكتشف "المنتصرون" أنهم لم يظفروا إلا بالهباء، فيما تذهب الكأس الحقيقية إلى الخصم الشبح، المتواري خلف الكيس؛ بعد أن يكون قد استنفد جزءًا مهمًّا من الزخم الجماهيري الذي يصعب تعويضه، أو تجديده، إلا بعد سنوات طويلة أخرى، تكون فيها أجهزته القمعية قد طوّرت أساليب التعامل مع أي احتجاجات جديدة.
حاصل القول: ما لم تفرّق الجماهير بين "الخصم" و"الكيس"، فستبقى مجرد "كيسٍ" يناطح "كيسًا".
EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.