في 16 يناير/كانون الثاني من عام 1953، أصدر مجلس قيادة الثورة قراراً بحلّ جميع الأحزاب السياسية في مصر وحظر تكوينها، وذلك بعد قرابة 50 عاما على بدء الحياة الحزبية في مصر.
وعقب أسبوع من ذلك القرار، تم تأسيس هيئة التحرير كتنظيم سياسي بديل للأحزاب، وترأسها جمال عبد الناصر، الرئيس المصري السابق، والذي قال عنها في خطاب له في مدينة المنصورة، حاضرة محافظة الدقهلية، في إبريل/نيسان من عام 1953 "إن هيئة التحرير ليست حزباً سياسياً يجر المغانم على أصحابه أو يستهدف شهوة الحكم والسلطان، وإنما هي أداة لتنظيم قوى الشعب وإعادة بناء مجتمعه على أسس جديدة لصالحه، أساسها الفرد". وعقب انتهاء مرحلة هيئة التحرير، تم حلها واستبدالها بالاتحاد القومي، في عام 1957، بعد إقرار دستور عام 1956، ثم تم استبداله، في 4 يوليو/تموز 1962، بالاتحاد الاشتراكي العربي، كتنظيم موحّد يقود الحياة السياسية في مصر، وتلك كانت التجربة المصرية الأولى في تفصيل حياة حزبية وسياسية تناسب تفكير وطموح النظم السياسية الحاكمة.
وشهد عهد الرئيس السادات، بعد إقرار دستور 1971، وضع قانون للأحزاب السياسية، تم تعديله عدة مرات، وبدأ العمل به رسمياً بعد قرار الرئيس، في مارس/آذار من عام 1976، بتشكيل 3 منابر حزبية في إطار الاتحاد الاشتراكي تمثل اليمين والوسط واليسار، تم تحويلها إلى أحزاب سياسية، في 22 نوفمبر/تشرين الثاني من نفس العام، وهو ما أصبح بعد ذلك نواة للتعددية الحزبية في الجمهورية المصرية، إلا أن تلك التجربة كانت تواجه تدخلات ومضايقات من أجهزة الأمن التابعة للنظام، لجعلها هي الأخرى تتناسب مع هوى ورغبات النظام الحاكم ورئيس الجمهورية، الذي ترأس الحزب الوطني الديمقراطي، وهو ما ورثه مبارك نظاماً وحزباً، إذ استحوذ حزب النظام على الحياة السياسية، والتي لم تشهد منافسة حقيقية بين الأحزاب السياسية، بسبب التدخلات الأمنية وتفجير الأحزاب من الداخل، أو عن طريق منعها من المشاركة السياسية، وتزوير الانتخابات التشريعية والمحلية وغيرها، لتظل الحياة الحزبية والسياسية مقيدة ومشوهة وتتحرك وفق ما يريده النظام.
تفصيل الحياة الحزبية بعد الانقلاب
عمد نظام عبد الفتاح السيسي إلى العمل على إعادة تشكيل الحياة السياسية على مقاس السلطة، مع بداية الفترة الرئاسية الثانية، بعد سنوات القمع التي قضت عليها، عقب استيلاء الجيش على السلطة والحياة العامة، بعد عزل الرئيس السابق محمد مرسي، في يوليو/تموز من عام 2013. وبعد عدة محاولات فاشلة لتجميل وجه النظام بمؤتمرات شبابية يلتقي خلالها السيسي بمجموعة من الشباب الذين تختارهم الأجهزة الأمنية، لجأ النظام إلى الأحزاب القائمة، في محاولة لإعادة تشكيلها على هوى السيسي. فقام المقدم أحمد شعبان، الضابط في جهاز المخابرات الحربية والمنتدب في مكتب رئيس الجمهورية، بالاجتماع بعدد من ممثلي الأحزاب في مقر جهاز المخابرات العامة، في 26 إبريل/نيسان الماضي، في "محاولة من النظام لفتح صفحة جديدة مع شباب الأحزاب" بحسب ما نقله مشاركون في الاجتماع.
ويؤكد المشاركون أن شعبان تحدّث معهم عن العمل على دمج النشطاء في الأحزاب، وطالبهم بالعمل على تقديم ورقة عن كيفية تطوير العمل الحزبي، وتصور عن شكل الحياة السياسية في مصر وما يجب أن تكون عليه، وفق ما أكدته مصادر "العربي الجديد".
تسارعت الأحداث عقب تلك اللقاءات، إذ انضم العميد محمد سمير، المتحدث باسم المؤسسة العسكرية السابق والمقرب من رئاسة الجمهورية، إلى حزب الوفد، وتم تعيينه مساعداً لرئيس الحزب لشؤون الشباب، وهو ما تلته دعوة من الحزب لجميع الأحزاب المشهرَة والمعترف بها من لجنة شؤون الأحزاب والبالغ عددها قرابة 104 أحزاب، لما أسماه المتحدث باسم الوفد "اجتماعات لمّ الشمل"، وهو ما تم وفقا لما نشرته وسائل إعلام مقربة من النظام، إذ اجتمع بعض ممثلي الأحزاب للتشاور "بشأن إعداد وثيقة حزبية وطنية متكاملة تجتمع حولها جميع الأحزاب السياسية، بهدف الارتقاء بالمشهد السياسي، والتشاور بشأن العديد من القضايا المتعلقة بملف الأحزاب، وعلى رأسها الاندماج والتوافق حول تشكيل لجنة تنسيقية بين الأحزاب والحكومة لبحث مشاكل الأحزاب ومطالبها، وما تريده من الدولة خلال الفترة المقبلة" وفق ما رشَح عن الاجتماع.
تلك الدعوات المتوالية من النظام الحاكم لتفصيل عمل حزبي على مقاس السلطة، وصفها الدكتور أيمن نور، المرشح الرئاسي السابق، بأنها تهدف إلى إعادة هندسة الحياة الحزبية في مصر. موضحا، في منشور على صفحته على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، أن استعادة الحياة الحزبية والسياسية كانت أحد أبرز مطالب الرئيس الأميركي دونالد ترامب في لقائه مع السيسي، كما أنها أحد مطالب صندوق النقد الدولي، وتأتي ضمن رغبة أوروبية يتم العمل عليها من قبل النظام، عبر خلق حزب موالاة وآخر للمعارضة، يعملان يتوجيهات أمنية، في ما يمكن وصفه بـ"أكروبات سياسي فاشل".
تنظيم من الأعلى
يصف محمد العجاتي، المدير التنفيذي لمنتدى البدائل العربي للدراسات (مؤسسة بحثية تعمل على معالجة القضايا السياسية) في مصر، بأنه يشبه ما جرى في دول مثل سورية، تم فيها هندسة التعدد الحزبي وتنظيمه من الأعلى؛ إذ يوجد أكثر من حزب، لكنها تمثل مساعدين للحزب الحاكم، قائلا "يمكن تشكيل حياة حزبية بالأمر المباشر، وفق ما نرى حولنا في التجارب المشابهة، لكن ذلك لن يمثل حكما رشيدا، ولا حرية حقيقية تبني مجتمعا قويا".
يضيف العجاتي، أن تجربة السادات التي حاول عبرها إحداث نقلة في الحياة الحزبية تمثلت في المنابر، والتي تتحول إلى أحزاب، لكنها ورغم قصر مدتها أثبتت أنها غير قابلة للاستمرار، لأنها عرضة للانقسام من الداخل، في ظل عملها عبر عباءة السلطة، بينما يفترض بها أن تعارضها، وهو ما لن يحدث بشكل حقيقي، بسبب نشأة تلك الكيانات. بينما كانت تجربة مبارك تمثل التعددية المقيدة. وفي المرحلة الحالية أرى أننا نعود من مبارك إلى السادات، وفق أسطورة يتم ترويجها من بعض المشتغلين بالعلوم السياسية تقول إن النظم الديمقراطية عبارة عن حزبين أو ثلاثة كبار فقط. وذلك غير حقيقي، إذ أن معظم دول العالم تخلّت عن تلك الرؤية. لكن من الواضح أن تلك الأسطورة وجدت صدى وقبولا عند النظام، الذي يعمل على أن يخلق حياة حزبية مخططة من أعلى، لتعمل من خلالها قوى وتيارات وأحزاب وأفراد من أجل أن تنفذ رؤية القائد الملهم، وهذا ما حدث في عهد عبد الناصر. وتابع قائلا "أعتقد أن هذا هو التفكير الحالي. ورغم عدم تحبيذ التوقعات في هذا الشأن، إلا أنني أعتقد أن تجربتنا مع التعددية المخططة أثبتت أنها غير قابلة للنجاح".
وأبدى المدير التنفيذي لمنتدى البدائل أسفه مما آلت إليه الحياة السياسية في مصر، قائلا "أصبح أقصى آمالنا أن تكون هناك تعددية مقيدة، على غرار عهد مبارك، حتى يتم فتح مساحات للحركة في المجال العام مرة أخرى".