يعتقد كثيرون أن بلدة بني بوبلان، إحدى ضواحي تلمسان، هي مسقط رأس الكاتب الجزائري محمد ديب (1920 ـ 2003)، علماً أنه ولد في "شارع باريس" بقلب تلمسان نفسها، وما بني بوبلان إلا فضاء مكاني في ثلاثية الجزائر التي صدر الجزء الأول منها، "الدار الكبيرة"، عام 1952.
بني بوبلان، أو بنو الحياة المؤجلة، كما كتب عنهم ديب في الخمسينيات، حيث كان الأحياء يسكنون تحت الأموات، هم نموذج للوضع الاستعماري الذي تلخصه مقبرة البلدة القابعة فوق تلة حجرية تنخرها الكهوف التي تُؤوي البشر. كهوف حلّت مكانها اليوم بيوت ومبانٍ من الإسمنت، وبالتالي من الصعب أن نجد وجه شبهٍ بين الحاضر والماضي.
ينتابنا سؤال، ونحن نقطع المسافة بين البلدة ومدينة تلمسان: هل يهمّ الجزائريين ما كتبه ديب، حتى يهمّهم أين ولد؟ كتب نصوصاً احتفت بثراء وحرية المكان والإنسان الجزائريين، في الوقت الذي كانت فيه فرنسا تعتبرهما ملحقين بها؛ نصوصاً بلغة فرنسية وروح جزائرية لم يفقدها حتى وهو يقيم في منافيه الاختيارية.
لا يختلف "شارع باريس" في تلمسان، عن الشوارع في فرنسا، بما فيها "شارع تلمسان" في باريس، وفي المدن التي شّيدتها في مستعمراتها السابقة. أشجار تنافس البنايات في العلوّ والعمر، ونوافذ مفتوحة على الخارج. نمط يختلف تماماً عن نوافذ المعمار المحلي المفتوحة على الداخل، حيث يبقى السر العائلي حبيس جدرانها. نجد نموذجاً حياً لهذا المعمار في "دار السبيطار"، الفضاء المكاني في مسلسل "الحريق" (1974) لمصطفى بديع، المأخوذ عن رواية ديب.
محلات الألبسة، خصوصاً النسائية منها، توشك أن تحدد الهوية الجديدة للشارع. أغلب هذه الألبسة قادم من منطقة الزوية، على الحدود مع المغرب، حيث تعبر مع سلع كثيرة أخرى، رغم أن الحدود مغلقة منذ عام 1994. قاعة السينما تحوّلت إلى فضاء مهمل، وبات حضور معالم تاريخية، مثل "باب الحديد"، مبرمجاً على اليتم والعزلة.
قلة من شباب الشارع وجدناها على علم بأن صاحب "الدار الكبيرة" ولد هنا. ألا يحكي الكبار تاريخ الحي لصغارهم؟ ربما إقامة ديب في أماكن مختلفة داخل الجزائر وخارجها قبل وبعد الاستقلال، جعل حضوره في الحي باهتاً. خطوات قليلة خلّفت ذكرياتٍ قليلة.
باتت تلمسان تتوفر على فضاءاتٍ ثقافية مدهشة، بعد اختيارها عاصمةً للثقافة الإسلامية عام 2011، أبرزها المكتبة البلدية التي حملت اسم محمد ديب. وأخيراً، أطلق اسم كاتب المدينة على فضاء ثقافي فيها، بعدما سبقه إلى ذلك من هم أقلّ شأناً منه، فقط لأنهم زكوا ما أرادت الحكومات المتعاقبة أن يزكوه.
كم تمنينا لو أن "مقهى الرمانة" لا يزال على قيد الحياة، فنجلس حيث كان يجلس ديب، ويقرأ الوجوه والاتجاهات، ثم يكتب نصاً ينتصر فيه لجزائريته وإنسانيته. عمر المقهى سبعة قرون، وقد أخذ اسمه من شجرة الرمان التي تتوسط ساحته.
مدهشة علاقة تلمسان بالشجرة. في حال اعتلينا هضبة "لالة ستي" التي تحولت إلى منتجع سياحي، وبحثنا عن المدينة تحتها، فإننا لن نرى سوى أشجار ومآذن لها أواصر معمارية مع مآذن مدينة فاس.
المقهى بات أطلالاً. ومع أنه استفاد من الترميم قبل ثلاث سنوات، من طرف وزارة الثقافة، إلا أنه مغلق ومهمل، رغم تحوّله إلى عمل مسرحي مستوحى من نصين لديب هما "شجرة القول" و"المقهى"، أحيا المخرج علي عبدون من خلاله التعابير الفنية الشعبية التي كانت تمارس في المقهى، ومنها فن الحكاية. يقول عبدون لنا إنه حاول، وهو يستعيد ديب عبر الحكاية واللغة الأم، أن يثبت أن الكاتب لم يخن المكان وحكايته، وأن من خانوهما هم الذين حوّلوهما إلى أطلال.
ما معنى أن نرمم معلماً ولا نحيي روحه؟ سؤال فرض نفسه علينا ونحن ندخل قلعة "المشور" التي شيّدها في القرن الثاني عشر الزيانيون الذين كانوا يتّخذون من تلمسان عاصمة لهم. فضاء تاريخي محاط بسور كبير وفق معايير ذاك الزمن، يضم القصر الملكي ومسجد السلطان ومعهداً للسياحة ومقراتٍ لجمعيات ثقافية، منها "جمعية الدار الكبرى" التي أسسها جامعيون وفنانون وحرفيون من المدينة عام 2002، ووضعوا إحياء التراث السردي والشعري لصاحب "الليلة المتوحشة" في صدارة الاهتمام، فكانت "جائزة محمد ديب" في القصة والرواية.
قلة الإمكانات المادية دفعت بالقائمين على المؤسسة إلى تنظيم الجائزة كل سنتين، ما يطرح سؤالاً حول تثمين المؤسسات الثقافية والاقتصادية الجزائرية الرسمية للقامات الإبداعية بناء على الولاء، وليس العطاء كما يفترض؟ ذلك أن جوائز أخرى تحمل أسماء كتّاب آخرين، لا تصادف إطلاقاً عراقيل في طريقها.
صحيح أن ديب قال إن أخلاقه ككاتب لا تسمح له بأن يزكي الرؤية التي اعتمدتها حكومات الاستقلال، لكنه كان واضحاً في التفريق بين الحكومات، التي هي معطى متغيّر، والدولة التي هي جملة من القيم المشتركة.