اعترافات نهاية العام

29 ديسمبر 2015

لوحتان لهيلدا الحياري

+ الخط -
يمر العام ويمضي، ونحصد الأخطاء، ونسحب الاعترافات من ذاكراتنا، وقليلون من يمتلكون الشجاعة لكي يبوحوا بها، ولكني أعترف، ومع نهاية عام 2015، بأني فشلت في أمور كثيرة. وفضيلة الاعتراف هذه أتمنى أن يمتلكها الجميع، فما الاعتراف بالفشل خصوصاً إلا تذكير لنا بأننا لا شيء في هذا الجرم الكبير، فعلينا ألا نغتر، ولا نهتم ولا نبالي ولا نتألم....

 أعترف أنني قد فشلت في الإفلات من كل القيود الشرقية حولي، وكل ما حاولت، وما فعلت، وما خططت، لأفلت، كان قبض ريح، فما زلت أخاف من كلام الناس وظنونهم واتهامهم لي بأنني متحرّرة، ولست حرة، وإصرارهم على الاعتقاد بأن المرأة "ما بيضبها إلا الراجل"، على الرغم من أنني قد حققت بعض الاستقلال المادي والمهني، إلا أن هذا كله في شرقية مجتمعي، القابض على ذكوريته، لا يعني سوى أنني ما زلت امرأة ناقصة.

وأعترف أنني فشلت، في عام 2015 والأعوام السابقة، في أن أقنع أولاد الحارة الأشقياء أن ثمة ألعاباً أخرى، في وسعهم أن يمارسوها، عدا مشاكسة القطط المسكينة، ونتف شعرها، ثم رميها فوق سطح أحد الجيران. سألتهم مراتٍ عن سر قسوة قلوبهم نحوها، فأجاب أحدهم إن والده يظل يضرب أمه بلا هوادة، ثم يلقي بها في غرفة مظلمة بلا اكتراث. وفي الصباح، تقوم لوحدها، بعد أن تجف دموعها المالحة على وجهها، لتمارس دورها أماً وكائناً قابلاً للضرب والإهانة والنسيان.

وأعترف أنني فشلت بإقناع الأولاد أنني امرأة سوية، لأنني أحب القطط، فلم يتوقف أبناء الجيران عن اختطاف قطتي وإخفائها ساعات، حتى أطل كالمخابيل من باب البناية، وأنادي أول طفلٍ أراه بمخاط متجمد على أنفه يمر من أمامي، لأسأله عنها، فيبزغ باقي الأطفال من العدم، وأمنحهم جميعاً عملاتٍ نقديةً معدنيةً صغيرةً في مقابل استعادتها، فيأتون بها بعد دقائق، وقد حملوها بينهم من أجزاء متفرقة من جسمها، فتبدو مثل  كيس الخيش الذي كانت تحتفظ جدتي بداخله بملابسها القديمة، وهم يفعلون ذلك، لأنهم يستكثرون على القطة ما تنعم به من دلالٍ في بيتي، ويعرض أحدهم، صادقاً، عليَّ أن أتبناه بدلاً من القطة. ويؤكد آخر أن الفقر الذي يعيشونه يجعلهم ينعتون أمثالي من النساء الرقيقات القلب بالخبال، مع أني لست أفعل ذلك معها ترفاً. ولكن، لأني تعثرت بها وحيدة في طريقي، فصرت مجبرةً لا بطلة.

وفشلت في إقناع جارتي ألا تجلس يومياً أمام قارئة الفنجان العجوز في الحي، وألا تمنحها قروشها القليلة، لأنها تريد أن تعرف شيئاً عن المستقبل، وأنا أحاول أن أقنعها دوماً بأن استطلاع الغيب حرام، وأن بقاءه غيباً لم يكن إلا لحكمةٍ نجهلها، لكنها على يقين أن عصفوراً أو خروفاً سيظهر في فنجانها، بمعنى أن مالاً سيعرف طريقه إليها، وأن حياتها ستصبح كالجنة، ويمر العام تلو العام، والفتحة في سقف بيتها القرميدي تتسع أكثر.

واعترف أنني، طوال عام كامل أيضاً، لم أجد إجابة لسؤال ابنتي الصغرى: هل حقاً كنا نعيش في ظل كهرباء دائمة على مدار الساعة في غزة؟ لأني حاولت استرجاع  تلك الأيام الخوالي، ولم أستطع، ويبدو أن القتامة، حين تستمر في الحياة، تطغى على كل الذكريات الجميلة. وأنك حين تنعم بنعم كثيرة، لا تدرك قيمتها، ولا تستشعر رونقها، إلى درجة أنك حين تحرم منها يكون عقابك بألا تتذكرها.

واعترف أنني فشلت في نسيان ذكريات الضربة الأولى من أول عدوان على غزة في نهاية ديسمبر/كانون أول 2008، ربما لأن أول ضربة جوية حدثت وصغاري ليسوا حولي، فكنت سأصاب بالجنون، وأنا أحاول جمعهم من مدارسهم، وبعد أن وصلنا إلى البيت بسلام، وعلى الرغم من الخوف الذي عشناه ثلاثة أسابيع، فبعض الطمأنينة تسربت إلى قلبي، فأولادي حولي، ولو جاء الموت بسبب شظايا صاروخ فسيكون رحيماً، ولن يغفل أحدنا دون الآخر.

سما حسن
سما حسن
كاتبة وصحفية فلسطينية مقيمة في غزة، أصدرت ثلاث مجموعات قصصية، ترجمت قصص لها إلى عدة لغات.