تدل المؤشرات الظاهرة من تداعيات الاعتداءات التي شهدتها فرنسا، أن طرفين استفادا منها، هما: الرئيس الفرنسي، فرنسوا هولاند، بارتفاع شعبيته، ومجلة "شارلي إيبدو" التي عرفت تزاحما غير مسبوق على شراء أعدادها.
فشعبية هولاند شهدت ارتفاعاً بنسبة 21 في المائة، مما يجعله يصل إلى نسبة 40 في المائة. واستطاع أن يَجُرَّ معه، في هذا الصعود "التاريخي"، رئيس الحكومة مانويل فالس، بنسبة 17 في المائة، ما جعله يحظى بشعبية تصل إلى 61 في المائة، وهو ما خلق قلقاً ظاهراً لدى زعماء اليمين.
كما أن هولاند استطاع، حتى الساعة، الحفاظ على وحدة معسكره وحلفائه، فلم تصدر، بعد، كلمةٌ نشاز من "المتمردين" الاشتراكيين، في حين أن الخضر أعلنوا حفاظهم على "روح المسؤولية". أي أن اليسار الفرنسي، كما تقول لور بروتون في صحيفة ليبراسيون، "استعاد رئيسه، والرئيس استعاد يسَارَهُ".
وإذا كان حزب "الجبهة الوطنية" المتطرف، الذي عُزِل أثناء الوحدة الوطنية، قد صبر على مضض، إلا أنه بدأ يستعد، الآن، لمرحلة تفكّك هذه الوحدة الوطنية، خصوصاً أن انتخابات مارس/آذار على الأبواب، وستفتح له مجالاً لقياس مدى نجاح خطابه المعادي للإسلام.
وتُشير مختلف القراءات لمرحلة ما بعد تفكك "الإجماع" والعودة إلى الصراعات السياسية، أن اليمين المتطرف سيكون الرابح الأكبر. وهو رأي عبّر عنه المحلل السياسي، جان إيف كامو، بقوله: "سيكون صعباً على حزب "الاتحاد من أجل حركة شعبية" أن يسترجع إحساس الحذر من الإسلام، وهو حذرٌ بصدد الانبثاق. فالكثير من الفرنسيين سيثقون في حزب "الجبهة الوطنية" ورئيسته، لأنها وحزبها كانا السبَّاقَيْن إلى إدانة التطرف الإسلامي، خصوصاً حين أدانا أداء الصلوات في الشوارع. وهنا يُفضِّل المواطنون الصورة الأصلية على غيرها".
وإذا كان هولاند والحكومة لا يخفيان حرصهما على بقاء هذه "الوحدة" الضرورية، فالحقائق على الأرض تُكذّب الأمر.
وفي هذا السياق، كتب نيكولا بيتوت في صحيفة "لوبنيون" اليمينية الفرنسية، عن التفسّخ الذي عرفته كتلة الوحدة الوطنية، وعدم احترامها، حين "تجرَّأت شريحة من السكان الفرنسيين على الاعتراف بأنها ليست "شارلي". يضاف إليه إضراب سائقي الشاحنات، وأيضاً فشل المفاوضات بين أرباب العمل والنقابات حول إصلاح قانون العمل".
اليمين يريد التشدد في كل شيء
بدأ اليمين مزايداته على اليسار في كل شيء. وقد استفاد من استطلاع جديد للرأي يكشف أن 81 في المائة من الفرنسيين يؤيدون سحب الجنسية الفرنسية من كل شخص لديه الجنسية الفرنسية وجنسية أخرى، مُدان بالإرهاب.
وهكذا، فإن عين اليمين مسلّطة على وزيرة العدل كريستيان توبيرا، ترقباً لقراراتها الجديدة وانعكاسها الفعال على محاربة الإرهاب. ولم يكن غريباً أن يرى ما يقارب 95 في المائة من قراء صحيفة "لوفيغارو" اليمينية أن إجراءات الوزيرة لا تثير ثقة الفرنسيين.
كما أن اليمين ينتظر، ويده على الزناد، الإجراءات التي ستُعلن عنها وزيرة التربية الوطنية والبحث العلمي، نجاة فالو بلقاسم، يوم الخميس المقبل، حول "قِيَم الجمهورية". ومعلوم أن اليمين لم يستسغ مطلقاً تعيين هذه الوزيرة المنحدرة من أصول مغاربية في هذه الوزارة الهامة.
يقول الزعيم اليميني، برونو لومير، إن اليمين لن يمنح الحكومة شيكاً على بياض، ولا يتردد في كشف الطلبات، وما هو مرجوّ من حكومة فالس، لأن فرنسا، كما يقول، "تمتلك فرصة تاريخية فريدة، من أجل إعادة ابتكار نموذجنا". ويُعدد لومير مؤشرات هذا النموذج الجديد، ومن بينها "الحد من الدولة الاجتماعية، بما فيها التخفيض من الموظفين، وإحداث تغيير عميق في قضايا الأمن والتعليم والاقتصاد".
مرحلة الانفعال
كان تصريح الفيلسوف الفرنسي، ميشيل أونفراي، عبر القناة الرسمية الثانية ليل السبت، صادماً للكثيرين. فالمفكر تجرَّأ على القول إن فرنسا كلَّها لم تخرج بعد من مرحلة الانفعال، وإن التفكير فيما حدث ومساءلة الجوانب السياسية والجيوسياسية التي أوصلت فرنسا إلى هذه الحالة، لم يتطرق إليها الصحافيون والمحللون، مع أن دورهم هو المساءلة وقراءة ما بعد الحدث، وليس توصيفه فقط.
واعترف أونفراي، الذي كان منهمكاً بالعمل على ما يسميه "أسطورة التسامح الإسلامي في الأندلس"، بأنه صُدِمَ بما حدث (يسميه 11 سبتمبر الفرنسي)، ولكن كان هناك فقط انفعال ولم يكن ثمَّة تفكير.
وفي هذه الأجواء الانفعالية، ما زالت الحشود تتدفق على الأكشاك الفرنسية، تبحث عن عدد "شارلي إيبدو" (التي تقول كل المعطيات إن مبيعاتها حطمت الرقم القياسي في تاريخ الصحافة الفرنسية) في حلتها الجديدة.
وقال صاحب كشك في منطقة بلاس ديتالي (المقاطعة الباريسية الثالثة عشر) لـ"العربي الجديد"، إنه لم يَر من قبل هؤلاء المشترين، تلامذة مدارس وأناسا من الريف الفرنسي، لا علاقة عادية لهم بعالم الصحافة. "يريدون أن يحتفظوا بهذا العدد التاريخي التذكاري"، كما قال البائع.
الانفعال الذي تحدث عنه أونفراي ظاهر، ليس فقط في القلق الذي يعيشه الفرنسيون، الذين لم يكونوا يتوقعون أن يُصابوا بما أصيبوا به، على الرغم من انخراط جيوش فرنسا واستخباراتها في أمكنة صراع عديدة.
وهو قلق أدركته القيادة السياسية الفرنسية التي دفعت بما يقارب 11 ألف جندي لمساعدة رجال الشرطة في توفير الأمن في فرنسا، والتي قررت التراجع عن تقليص ميزانيات الجيش والاستخبارات، وهو ما هدّأ من مخاوف المعارضة اليمينية التي كانت تعارض سياسة التقليص من البداية.