استكشاف هوية الصين

13 سبتمبر 2015
(دار النشر لجامعة المعلّمين بقوانغشي، 2015)
+ الخط -
كان السؤال وما زال عن كيفية تعريف الصين كجماعة متعدّدة المكوّنات وموحّدة الجوهر يرافق مسيرة تشكّل وتطوّر الصين الحديثة، التي بدأت منذ منتصف القرن التاسع عشر. برز هذا السؤال حاملاً مغازي عصريةً في السنوات الأخيرة مع ازدهار اقتصاد الصين المستمرّ وارتفاع مكانتها العالمية، ذلك لأنّ الصين أصبحت، في نظر كثيرين من داخل الصين وخارجها على السواء، الطرف المرشح لإصلاح النظام الدولي الحالي المتورّط في ركود تنموي. وعليه فإننا نرى انتشاراً حيث ساد الخطاب الإعلامي والأكاديمي يحفل بنظريات مختلفة تحوم حول ما يُسمّى "نمط الصين" أو "خبرة الصين"، كما لو كانت الصين كيانا موحّدا متميّزا عن غيرها، ولا يوجد تباين بين مكوّناتها المتلوّنة.

إنّ ظهور هذا الرأي يصادف ويتماشى مع نهضة القومية الصينية البديلة عن الأيديولوجية الثورية الشيوعية المتراجعة في الصين، الأمر الذي يزيد من أهميّةَ قضية تعريف الصين وتحديد هويتها. في هذا الصدد وعلى وجه العموم، يواجه الصينيون الواعون بأنفسهم وجماعاتهم، خاصة من المثقّفين والطبقة الوسطى، تحدّي إعادة النظر في هويتهم الجماعية التي تشهد الآن تأرجحاً وتقلبا بين النزعات الانغلاقية والانفتاحية. فالأولى تهدف إلى إثبات اعتقاد بوجود الصين ككيان موحّد حصري، ذي خاصية جوهرية ثابتة، ومن ثم يكون العمل على إنهاضها أمراً مطلوباً وضروريّاً على مستوى جماعي، والثانية تتجنّب الاعتقاد الجوهري السابق بل تركّز على إظهار قابلية الحضارة الصينية للتكيّف مع الظروف المتطوّرة ولامتصاص عناصر جديدة قوميا وثقافيا وقيميا.

وبالفعل أثّر هذا التأرجح في الآراء على الأكاديميا الصينية. فعلى سبيل المثال اندلع مؤخرا جدل بين المؤرّخين الصينيين حول "تاريخ تشينغ الجديد"، التي هي آخر أسرة إمبراطورية حاكمة في الصين، جاءت من قومية "مان" التي كانت تُعتبر إحدى "القوميات الأجنبية" المتاخمة للصين حسب موقف قومية "هان" الغالبة في الصين. استولت أسرة تشينغ على حكم الصين في عام 1644 وسرعان ما بنت نظام حكمها على الفلسفة السياسية والتقاليد البيروقراطية الصينيتين. كانت قومية "مان" قد تأقلمت مع المجتمع الصيني وانضمت إليه بشكل عميق عندما أعلن آخر إمبراطور لأسرة تشينغ التنازل عن عرشه عام 1911. وتبعاً لذلك، يرى مذهب من المؤرخين الصينيين، وهو المذهب السائد، أنّ تشينغ تعتبر من الأسر الحاكمة الصينية وعصر حكمها جزء لا يتجزّأ من تاريخ الصين. بينما يفنّد هذا الرأيَ مذهبٌ آخر يُدعى "تاريخ تشينغ الجديد" المتكوّن من المستشرقين الغربيين المتخصّصين في تاريخ الصين وتلاميذهم الصينيين. وبحسب هذا الأخير، فإن تشينغ ليست إمبراطورية صينية، بل أوسع منها تشتمل على مناطق وقوميات خارج الصين في شمال شرقي آسيا وآسيا الوسطى. بعبارة أخرى، لم تكن الصين تساوي إمبراطورية تشينغ بل جزءاً منها فقط.

ويبدو للوهلة الأولى أنّ نقاط الخلاف بين المذهبين تتعلق بطبيعة إمبراطورية تشينغ، غير أنّ الخلاف العميق يتمحور حول هوية الصين. ومن أجل تحديد هذه الهوية، فإن المذهب السائد كما نراه يفسر الموقفين الانفتاحي والانغلاقي حينما يصف اندماج قومية "مان" في المجتمع الصيني أثناء حكم تشينغ كدليل على كلّ من مرونة الصين، المتمثلة في قابلية امتصاص العناصر "الأجنبية"، وثبات الصين المتمثل في استمرار جوهرها حتى تحت الحكم "الأجنبي".

بينما يعتبر المذهب الثاني أن الصين كيان جغرافي تاريخي ثابت كان لا بد أن ينضمّ إلى إمبراطورية تشينغ، ولم يكن يستطيع أن يتوسّع لاستيعاب هذه الإمبراطورية، ويتجلّى موقفه الانفتاحي في تحطيم سرد تاريخي جوهري يؤكّد على سيادة الصين البديهية المتواصلة في كافّة الأراضي، التي كانت تسيطر عليها أيّة أسرة من الأسر الحاكمة الصينية، ومن ضمنها أسرة تشينغ.

مثال آخر حول التأرجح في تحديد هوية ثابتة للصين يتجسد في كتاب "الحديث عن الصين: جماعة معقّدة متغيّرة" للمؤرخ المعروف، تشوهيون شيوي، والصادر عن دار النشر لجامعة المعلّمين بقوانغشي، 2015. وفيه يفحص المؤلف تاريخ الصين منذ العصر الحجري الحديث حتى نهاية أسرة تشينغ، ليجيب عن السؤالين التاليين: من نحن (الصينيون)؟ ولماذا لم ينقطع تاريخ جماعة الصين بل استمرّ لآلاف السنين حتى الآن؟

يشير شيوي إلى أنّ الصين ذات نواة مستقرّة، تشكّلت في العصر الحجري الحديث، عن طريق اندماج العديد من النوى الإقليمية إلى نواة واحدة اتخذت وسط النهر الأصفر مركزها. وهذه النواة، في رأيه، ظلّت تتوسع في العصور التالية لتضمّ إليها المناطقَ المحيطة ومواردها وسكّانها. استقرّت هذه النواة أثناء حكم أسرتيْ تشين (221 ـ 207 ق. م) وهان (206 ق. م ـ 220 م) وأصبحت أساسًا لجماعة الصين العريقة. تمتّعت هذه الجماعة بالصفات التالية: أولا، الارتكاز على الشبكات العائلية في القرى كوحدات تنظيم المجتمع بدلا من القبائل والعشائر البدائية؛ ثانيا: تنفيذ الحاكم الإمبراطوري حكمه بواسطة العائلات المحلية الكبرى، مما يخلق ميزان قوة بين الحاكم والمحكوم بحيث يتم تفادي الانفصال بينهما، مثلما يحدث في المجتمع الطبقي؛ ثالثا، تواجد شبكات المواصلات الاقتصادية التي ظلّت تحافظ على وحدة جماعة الصين حتى في فترة الانقسام السياسي؛ رابعا، رسوخ الاعتقاد الكونفشيوسي الذي يصهر تقاليد الأنساب والعبادة الأبوية إلى النظام الأخلاقي الشامل الذي ينظّم العلاقات بين هيئات المجتمع. أخيراً، وهو الأهم، يعتقد شيوي أنّ جماعة الصين العريقة كانت مرنة ومنفتحة قادرة على استيعاب الأقوام والأديان والثقافات الأجنبية لتعزيز وتوسيع نواتها دون المسّ بسلامة هذه النواة واستقرارها.

تطورت جماعة الصين على نحو ما ذُكر حتى وصلت إلى ذروتها في عصر أسرة تانغ (618 ـ 907 م) حيث انتشر النفوذ الصيني إلى أبعده في آسيا، وتعايش السكّان الصينيون مع الشعوب المهاجرة إلى الصين من كل الأنحاء. يطلق شيوي على هذه الجماعة "الدولة العالمية"، لأنها وثقت باستقرار وانفتاحية نواتها فلم تفرض حدودا أو حواجز بين مكوناتها، ولم تحتج إلى بناء هويتها على قُطر محدّد أو قوم، كما أن حكامها كانوا يعتقدون أنهم يتحمّلون مسؤولية إلهية حول رعاية أبناء العالم ونظام مجتمعهم.

ولكن من بعد أسرة تانغ، حسبما يروي شيوي، انحطّت هذه "الدولة العالمية" تدريجيا بسبب انقسام الصين بين بضع أسر حاكمة تمثّل مصالح أقوام معيّنة. فبرز واشتدّ الوعي بالتباين بين الأقوام، خاصة بين الصينيين "الأصلاء" في وسط وجنوب الصين، والأقوام "الأجنبية" في الشمال، فسادت سياسة القومية والعصبية في الصين، الأمر الذي أوهن مرونتها وانفتاحيتها السابقتين.

تحطّمت "الدولة العالمية" بمعناها الحقيقي خلال الأسر الثلاث الأخيرة في تاريخ الصين، أي أسرة يوان (1206 ـ 1368 م) من قومية المنغول، وأسرة مينغ (1368 ـ 1644 م) من قومية هان، وأسرة تشينغ من قومية مان. ويعزو شيوي سبب الانحطاط إلى فرض أسرة يوان على جماعة الصين الطبقيةَ الهرمية والانفصال القومي، مما قطع الروابط الصحية بين الحاكم والمحكوم وبين الخاصة والعامة، وبين القوميات المختلفة. اتبعت أسرتا مينغ وتشينغ سياسة الطبقية والانفصالية المتشابهة، التي أدّت إلى فقدان جماعة الصين روحَها الانفتاحية، وإلى الانعزال الذاتي عن العالم الخارجي، وأخيراً إلى ضعفها أمام غزو الحداثة الغربية في القرنين التاسع عشر والعشرين.

في سرده لتاريخ الصين، يتّخذ شيوي المرونة والانفتاحية كمعيارين لتقييم ازدهار جماعة الصين وانحطاطها، ويعتبرهما متأصّلتين في نواة الصين، التي يتمثل إنجازها المثالي في "الدولة العالمية". بهذا الطريق وبناء على روح الانفتاحية، يقترح شيوي وصفاً لهوية الصين وشرحاً لاستمرارها عبر العصور، لكنه لم ينجُ من نزعة الانغلاقية عندما أكّد على تشكّل نواة الصين المبكّر واستقرارها في العصور التالية. وهذا إن دل على شيء، فعلى تأرجحه هو أيضا وحيرته بين الانفتاحية والانغلاقية في استكشافه هوية الصين. وقد عرفنا أنّ هذين التأرجح والحيرة عاديّان في المجتمع الصيني الآن، ولا تكمن أسبابهما في تاريخ الصين بل في حاضرها. لذا يُستحسن ألا نتجاهل هذين التأرجح والحيرة عندما نتحدث عن "نمط الصين" أو "خبرة الصين".

(أستاذ مساعد في قسم الدراسات العربية، جامعة بكين)
المساهمون