محافظ البنك المركزي في أي دولة هو أهم مسؤول مصرفي ومالي، بل وأهم مسؤول اقتصادي على الإطلاق، وتأتي مرتبته تالية في الأهمية بعد رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء، وفي بعض الدول تسبق أهميته وموقعه رئيس الوزراء.
ذلك لأن المحافظ يتولى إدارة مؤسسة اقتصادية ومالية بالغة الحساسية هي البنك المركزي أو مؤسسة النقد، وهذه المؤسسة هي من تحمي أموال المودعين ومدخرات المجتمع، وتراقب أنشطة البنوك وشركات الصرافة والشركات المالية وتحميها من أي اختراقات خارجية أو انهيارات وإفلاسات.
والبنوك المركزية هي التي تٌؤًمن احتياجات البلاد من السلع الغذائية والوقود والأدوية والمواد الخام، وتدير احتياطات البلاد من النقد الأجنبي، وتدبر قيمة مستحقات سداد الديون الخارجية.
والبنك المركزي في أي دولة هو المؤسسة التي تتولى إدارة الدين العام وأموال الدولة وطباعة البنكنوت، وتحديد معدلات التضخم وأسعار الفائدة في المجتمع، وتتخذ من الإجراءات ما يشجع على تشجيع الاستثمار والحد من البطالة ومكافحة الفساد، وهي المؤسسة التي تحمي عملة البلاد من المضاربات وتجار السوق السوداء، ببساطة البنك المركزي في أي دولة يمثل رئة المجتمع المالية.
ولذا تدقق الدول في اختيار الشخصيات التي تتولى منصب محافظ البنك المركزي ونوابه بحيث يكونوا حسني السمعة، بعيدين عن الشبهات، لديهم خبرات كبيرة في شؤون الاقتصاد وإدارة السياسة النقدية والأموال.
كما تبقي الدول على هؤلاء المحافظين في مناصبهم لسنوات طويلة، كما حدث مع آلان غرينسبان رئيس مجلس إدارة الاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي الأميركي) الذي استمر في منصبه 19 عاما "من 1987 إلى 2006" ليقضي ثاني أطول فترة ولاية للمنصب بعد ويليام مارتن الذي شغل المنصب في الفترة من 1951 إلى 1970، يتكرر المشهد مع محافظي بنوك مركزية عالمية كبرى منها المركزي الياباني وبنك إنكلترا "البنك المركزي البريطاني" وغيره.
وعندما تثار شبهة حول أحد محافظي البنوك المركزية فإنه يسارع إلى الاستقالة من منصبه حفاظا على المؤسسة الحساسة التي يتولى إدارتها، مثلا تقدم محافظ بنك بنغلادش المركزي باستقالته من منصبه بعد سرقة 81 مليون دولار من حساب المصرف لدى بنك الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك وعقب الكشف عن أكبر عمليات القرصنة الإلكترونية في التاريخ.
كما استقالت شارلوت هوغ، نائبة محافظ بنك إنكلترا في مارس 2017، نتيجة عدم إفصاحها عن أن شقيقها كان يعمل في بنك باركليز عندما انضمت للعمل في البنك المركزي.
وفي سبتمبر 2018 استقال محافظ البنك المركزي اﻷرجنتيني لويس كابوتو بعد ثلاثة أشهر فقط من توليه المنصب لأسباب قيل وقتها إنها الشخصية.
وهذا ما يجب أن يفعله رياض سلامة حاكم " محافظ" مصرف لبنان المركزي الذي تولى منصبه في عام 1993 في أطول فترة يعرفها بنك مركزي عربي.
فالشائعات باتت تلاحق الرجل خاصة بعد تظاهرات أكتوبر 2019، وتوقف لبنان عن سداد ديونه الخارجية، ثم دخول البلاد في أزمة مالية واقتصادية ومعيشية عنيفة تسببت في تهاوي قيمة الليرة، وحدوث قفزات في أسعار السلع الغذائية ومعدلات التضخم والبطالة والفقر.
شائعات تبدأ من خلق سعر مصطنع لليرة مقابل الدولار ولسنوات طويلة على حساب موازنة الدولة وخزانتها الخاوية، والتسبب في تبديد المال العام، ودعم طبقة رجال الأعمال والمستوردين وناهبي المال العام عبر توفير الدولار الرخيص، والتغاضي عن حدوث جرائم مالية داخل القطاع المصرفي من عمليات غسل أموال قذرة وتمويل أسلحة ومخدرات وغيرها، وضعف الرقابة على البنوك وهو ما سمح لها بتحويل أموال إلى الخارج ناتجة عن أنشطة غير مشروعة.
كما تلاحق محافظ مصرف لبنان المركزي تهم الفساد المالي، وتهديد أموال المودعين وحجزها، وضعف المراكز المالية للبنوك، وعدم الكشف عن الخسائر الحقيقية لمصرف لبنان ومركزه المالي، وكذا جذب الأموال الساخنة للبلاد عبر زيادة سعر الفائدة على الدولار وسندات اليوروبوند.
كما تنتشر شائعات في بيروت منذ سنوات حول ضخامة الثروة التي يملكها رياض سلامة في الخارج والتي قدرتها مصادر غير رسمية بأكثر من 100 مليون دولار، في الوقت الذي يدعو الآخرين للاستثمار في بلاده.
ولذا فإن على رياض سلامة ترك منصبه والاستقالة حتى يفسح المجال لشخصية أخرى تعيد الثقة إلى القطاع المصرفي والمالي، خاصة في ظل هذه الظروف الصعبة والأزمة المالية الخانقة التي يمر بها لبنان.
ويكفي ما تعرض له سلامة من حرج ما جرى خلال الفترة الماضية من قرار قضائي بإلقاء الحجز الاحتياطي على عقاراته وأمواله في البنوك وأسهمه.