كان من اللافت مسارعة وزارة الخارجية الأميركية فور إغلاق صناديق الاستفتاء على الانفصال في إقليم كردستان العراق، مساء الإثنين، إلى إصدار بيان حول الموضوع أعربت فيه عن "خيبتها العميقة" لإصرار أربيل على إجراء الاستفتاء، من دون إدانة ولا تلميح بعدم الاعتراف بنتائجه، بل أكد البيان أن "العلاقة الأميركية التاريخية مع الشعب الكردي لن تتغير".
وإذ أشارت الخارجية إلى التعقيدات التي قد تتسبّب بها هذه الخطوة على صعيد علاقات إقليم كردستان ببغداد ودول الجوار، إلا أنها حرصت على التحذير الضمني من أن تسلك الردود على الاستفتاء طريق القوة، "فالولايات المتحدة ترفض اللجوء إلى العنف كما إلى الإجراءات الأحادية من أي جانب لتغيير الحدود"، وفق البيان. ويبدو أن المقصود بذلك هو حدود الأمر الواقع على الأرض، وإلا كان يُفترض أن يأتي النص بصيغة واضحة تفيد بأن التغيير لا ينبغي أن يمس حدود العراق كما هي معروفة. ومن هذا المنظار، ترى واشنطن أن التعامل مع الوضع المستجد يجب أن يتم "من خلال الانخراط البنّاء في عملية حوار بهدف تأمين غد أفضل لكل العراقيين". ويعتبر كثر في واشنطن وخارجها، من المشككين بمدى رفض الولايات المتحدة، أو دوائر فاعلة داخل الإدارة لانفصال أكراد العراق، أن هذا الموقف ربما يعني التحاور على قاعدة التسليم بمضامين الاستفتاء ولو من غير التأييد الصريح لمآله الانفصالي. وزيادة في الالتباس، يختم البيان بإعلان "دعم أميركا لعراق موحّد فيدرالي ديمقراطي مزدهر، مع مواصلة السعي للبحث عن الفرص التي تساعد العراقيين على تجسيد تطلعاتهم، ضمن إطار الدستور". توازن يجمع بين الوحدة من دون تعيين حدود، وبين طموحات مكوّناتها، الكردية في الحالة الراهنة من غير تسميتها. موقف يفيد بأن الولايات المتحدة لا تقف عقبة في طريق الرغبة الكردية، وفي الوقت نفسه لا تريد أن تبدو وكأنها مهندس الاستفتاء واستطراداً "الاستقلال" المنشود.
مثل هذا الموقف ليس بجديد، فهو يأتي في امتداد تعاطف أميركي مزمن مع النزوع الكردي نحو الانفصال واحتضان مبطّن لمشروعه، صعد وهبط تبعاً للظروف، لكن من دون أن يتلاشى. بعد غزو العراق، بدأ التعاطف يتبلور أكثر فأكثر ويتحوّل إلى وقائع على الأرض، من خلال منح الإقليم مساحة أوسع للحكم الذاتي، بما أدى إلى تمكينه من المباشرة ببناء المؤسسات الآيلة بالنهاية إلى بلورة الكيان الذي جاء الاستفتاء ليشكّل المدماك الأول في قيامه رسمياً. ترافق مع ذلك وعززه تعويل البنتاغون على قوات البشمركة كحليف ميداني من الدرجة الأولى. وتمدّد ذلك ليشمل "وحدات حماية الشعب" الكردية السورية. في موازاة ذلك، تطوّرت العلاقة لتأخذ صيغة التواجد العسكري على شكل منشآت للقوات الأميركية في الإقليم، من بينها مطار بمدارج كبيرة وطويلة لاستقبال طائرات عسكرية ضخمة.
وسط هذا التقارب وفي ضوء الاستقرار الذي نعِم به الإقليم مقارنة بالتمزق الذي ضرب بقية مناطق العراق، تعالت الدعوات آنذاك في واشنطن لتقسيم العراق ودعم قيام دولة كردية، لكن العامل التركي لجم هذا التوجّه. ثم تراجعت هذه النغمة مع تمدد تنظيم "داعش".
على هذه الخلفية تعاملت معظم الدوائر الأميركية مع الاستفتاء. حذرت من التوقيت والانعكاسات المحتملة، لكن من دون رفض قاطع للخطوة من حيث المبدأ مثلما ظهرت في بقية المواقف الصادرة عن طهران وأنقرة وحتى موسكو التي تشدد في كل بيان وتصريح، على "وحدة العراق" بخلاف التصريحات والمواقف الأميركية. وإذا كان الاعتقاد الغالب في أميركا بأن هذا التطور يحمل معه بذور متاعب آتية، إلا أنه ليس من بين الردود ما دعا إلى ضرورة التراجع عنه، أو إلى وجوب تجاهله وعدم الاعتراف به. بل أن ثمة من يرى أنه قد يكون "عامل استقرار بقدر ما يمكن أن يتحوّل إلى عامل تأجيج للانقسامات"، كما تقول مجلة "ناشيونال إنترست" المحافظة. فالتحفّظات الأميركية، الرسمية والمستقلة، تدور إجمالاً حول التداعيات المحتملة وليس حول مبدأ الاستفتاء، ولاحقاً الانسلاخ. ومن هنا رد الإدارة الأميركية الذي يبدو أقرب إلى ضبط الاعتراضات العراقية والإقليمية على هذا التحوّل، لتمريره بأقل الخسائر إلى حين.