وتجلى الموقف المصري في مشاهد أقرب إلى المسرحية الهزلية المصاب أبطالها بالانفصام عن الواقع؛ إذ أصر وزير العدالة الانتقالية ورئيس الوفد المصري، المستشار إبراهيم الهنيدي، على أن يصب كمّا هائلا من المغالطات أمام المجلس، معتقدا أن أيا من أعضائه لا يقرأ الواقع، ليس من خلال المنظمات الحقوقية التي ترصد بقلق بالغ ما يحدث في مصر، بل أيضا من خلال تقرير مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، التي وضعت أمام العالم حقيقة العلاقة بين مصر وحقوق شعبها في تقرير تفصيلي.
ويتشابك الضحك مع الدهشة، بل والذهول، حين الاستماع إلى حجم المغالطات التي ساقها الوفد المصري من رئيسه إلى أصغر أعضائه، إذ أصر رئيس الوفد على "وجود تعاون وثيق بين القاهرة ومفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان"، واستقبال مصر لزيارات وفود من المفوضية في أعقاب ثورة يناير 2011 وعام 2012 ومرتين في عام 2014، بينما يؤكد تقرير المفوضية في المقابل: "أن مصر لم تستقبل سوى خبير واحد معني بمكافحة الاتجار بالبشر، بينما لم ترد على طلبات لزيارة الخبراء المعنيين بملفات استقلال القضاة والمحامين (2014) ومدافعين عن حقوق الانسان (2012) والإعدام بإجراءات موجزة (2013) وحرية تكوين الجمعيات (2013) والفريق المعني بحالات الاختفاء القسري أو غير الطوعي (2013) ومكافحة الإرهاب (2014) وتأثير الدَيْن الخارجي على إعمال حقوق الإنسان (2014).
وتحدث الوزير المصري عن "تنفيذ برنامج للتعاون الفني بين مصر والمفوضية في ثلاثة قطاعات هامة هي الأمن والقضاء والبرلمان، في إطار بناء القدرات ونشر الوعي بحقوق الإنسان على المستوى الوطني ضمن برنامج تعاون فني طموح توصلت إليه الحكومة مع المفوضية".
ولكن من يعرف آليات عمل المفوضية يدرك تماما أنها لا علاقة لها بالبرلمانات، إذ يتولى شأنها الاتحاد البرلماني الدولي وهو مستقل عن الأمم المتحدة تماما، ثم كيف يمكن أن يتطابق وجود برنامج تعاون فني في مجال القضاء والسلطات المصرية لم تستقبل الخبراء المعنيين بملف استقلال القضاة؟
وكيف يمكن الاقتناع بوجود برنامج تعاون أمني مع المفوضية التي تشكو من عدم الرد على 44 رسالة ونداء عاجلا من أصل 78 رسالة موجهة إلى السلطات المصرية في الفترة ما بين عامي 2010 و2014 وبعضها يضم تساؤلات عن حالات تعذيب واختفاء قسري وانتهاكات حقوق إنسان في مجالات مختلفة؟
بل كيف يمكن أن يكون هناك تعاون في المجال الأمني بين الأمم المتحدة والسلطات المصرية، بينما الأخيرة لم تقدم منذ عام 2004، وفق تقرير المفوضية، وحتى اليوم أي تقرير لها حول سبل مكافحة التعذيب؟
ويقول تقرير المفوضية في هذا الصدد "في عام 2013، وجه كل من المقرر الخاص المعني بمكافحة الإرهاب وحقوق الإنسان، والمقرر الخاص المعني بمكافحة التعذيب، نداءً عاجلا مشتركًا بشأن ادعاءات التعذيب وإساءة المعاملة من جانب قوات الأمن الوطنية بحق المتظاهرين والاستخدام اللاحق للأدلة المنتزعة تحت وطأة التعذيب أمام المحاكم المصرية. ووردت لعدد من المكلفين ادعاءات تتعلق بالاستخدام المفرط للقوة والاعتداء البدني، بما في ذلك الاعتداء الجنسي على المتظاهرات".
وادعى الوفد المصري "احترام الحقوق المدنية والسياسية والتزامه بتعهدات مصر في إطار العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية احتراما كاملا"، بينما يقول تقرير المفوضية إن مصر لم تلتزم بتقديم تقاريرها الدورية حول تلك الحقوق منذ عام 2004.
ويقول التقرير الأممي: "أعربت المفوضة السامية لحقوق الإنسان عن انزعاجها إزاء أحكام السجن القاسية الصادرة في 23 يونيو/حزيران 2014 بحق ثلاثة صحافيين يعملون لصالح قناة الجزيرة، وكذلك بحق 11 متهمًا آخرين حوكموا غيابيًا. وحثت المفوضة السلطات المصرية الإفراج فورًا عن جميع الصحافيين وغيرهم من الإعلاميين الذي سُجنوا لقيامهم بأنشطة مشروعة في نقل الأخبار. وتلقى عدد من المكلفين معلومات تفيد استهداف قوات الأمن للمدافعات عن حقوق الإنسان اللاتي شاركن في التظاهرات، باستعمال الإيذاء البدني، والإهانة المتعمدة، والاعتداء الجنسي الذي يقترن بالوصمة الاجتماعية".
وكل ما سبق لم يقم الوفد المصري بالرد عليه، مكتفيا بأنها "إجراءات قضائية تتم وفق القانون وبموجبه، كما أن حالات التعذيب فردية ويتم التحقيق فيها على الفور ولا يوجد احتجاز بل كل شيء يتم بموجب القانون والقضاء".
دعم سعودي إماراتي
وعلى الجانب الآخر من المشهد بين الأمم المتحدة والوفد المصري انقسمت الدول إلى فريقين، أولهما عزَفَ أنشودة "نرحب ونشيد، ونثني"، والثاني كان موضوعيا واحتكم إلى الآليات المعمول بها في تقييم الدول، ووجه توصيات ونصائح تسعى بالفعل إلى تحسين أوضاع حقوق الإنسان كافة".
فمن بين أعضاء الفريق الأول نجد الدول العربية باستثناء قطر وتونس، إذ رحبت وأثنت وأشادت بما تقوم به مصر، وما قامت به من "إنجازات لتطوير حقوق الإنسان والنهوض بها رغم التحديات الجسيمة التي تمر بها من إرهاب وعنف".
بل تمادت السعودية في تأييد الوفد المصري، إذ حول السفير السعودي فيصل طراد كلمته إلى منشور تأييد من المملكة "التي تقف حكومة وشعبا بدعمها اللامحدود للقيادة المصرية والشعب المصري الشقيق، ونشيد ونحيي الجهود الضخمة التي بذلتها الحكومة والرئاسة المصرية لتنفيذ المراحل الثلاث الهامة لخارطة الطريق وبكل عدالة وشفافية، وبما يضمن ويحفظ أمن مصر وسيادتها وسلامتها الإقليمية"، مشيرا إلى أن مصر "خاضت العديد من التحديات والصعوبات التي هددت أمنها وسلامتها وثرواتها في السنوات الأخيرة بهدف تحقيق الديمقراطية والعدالة والحرية لشعبها وتمكنت بفضل من الله ثم بالقيادة الحكيمة لفخامة الرئيس عبد الفتاح السيسي أن تعبر إلى شاطئ الأمان" على حد قوله.
أما التوصيات السعودية فضمت "تكثيف الجهود الرامية لمكافحة ظاهرة الإرهاب في كافة صورها ومواصلة جهود مكافحة الفساد في إطار برامج الإصلاح التشريعي والإداري والسياسي واستمرار الإجراءات الرامية للارتقاء بحقوق الشباب وتشجيع المبادرات الطوعية والأعمال الخيرية المتعلقة بدعم هذه الحقوق".
بينما أشارت توصيات الدول العربية الأخرى إلى أهمية العناية بحقوق المرأة ومكافحة الأمية وتعزيز حقوق الطفل وذوي الاحتياجات الخاصة، وأضافت عليها الإمارات العربية المتحدة توصية ربما تكون فريدة من نوعها تطالب مصر بـ"العمل على نشر وتوسيع مفهوم المسؤولية الاجتماعية لرأس المال واستنهاض رجال الأعمال والقطاع الخاص للمساهمة في عملية التنمية الإنسانية الشاملة بما في ذلك المبادرات الطوعية والعمل الخيري". منوهة إلى ضرورة "زيادة برامج تثقيف وتوعية رجال الشرطة بقيم ومبادئ حقوق الإنسان ومواصلة الاهتمام بالتمكين الاقتصادي للمرأة".
توصيات قطر وتونس
وفي المقابل تمسكت قطر وتونس بمصداقية أفضل من بقية الدول العربية، إذ أكدت الدوحة "أهمية ما نص عليه الدستور المصري بشأن حقوق الإنسان والحريات الأساسية بما في ذلك حرية الرأي والتعبير والتجمع السلمي، وبكل ما يتعلق بتعزيز ضمان سيادة القانون واستقلال القضاء". مشيرة إلى أن "تماشي التشريعات الوطنية مع أحكام الدستور والمعايير الدولية ذات الصلة، هو أمر له أهمية قصوى".
وقدمت قطر توصيتين هما: مواصلة التدابير للوفاء بالالتزامات والتعهدات الدولية المتعلقة بتعزيز وحماية حقوق الإنسان والحريات الأساسية، ومواصلة التعاون والتنسيق مع مكتب المفوضية السامية لحقوق الإنسان لإنشاء المكتب الإقليمي لمكتب المفوضية لشمال أفريقيا بالقاهرة.
وشددت تونس على "ضرورة مواصلة مصر مراجعة سائر التحفظات على الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان وتوصيها بالمصادقة على البروتوكول الاختياري لاتفاقية مناهضة التعذيب والاتفاقية المتعلقة بالاختفاء القسري وقانون روما الأساسي"، كما شجّعت مصر على "تكثيف جهودها لمكافحة كافة أشكال التمييز والعنف ضد النساء والفتيات وحظر العقوبات البدنية ضدّ الأطفال".
وأوصى التعليق التونسي النظام المصري بالعمل على ضمان مناخ ملائم لأنشطة الصحافيين والمدافعين عن حقوق الإنسان ومنظمات المجتمع المدني، مع توصية إضافية بـ"الإسراع باستكمال إجراءات فتح مكتب إقليمي دائم للمفوضية السامية لحقوق الإنسان في القاهرة".
وربما لا تلام الدول الأفريقية كثيرا على السير في "ركب الإشادة" بما يحدث في مصر، عملا بمبدأ "المجاملات المسبقة" كي تحصل من السلطات المصرية والدول العربية على دعم مماثل أثناء استعراض ملفاتها أمام الأمم المتحدة، لكنها وفق مراقبين، كانت مداخلات عديمة المصداقية تأتي من دول يدرك المنصفون أن حقوق الإنسان فيها مصطلح غير وارد في قاموس مفرداتها.
بينما حاولت الدول الغربية بشكل عام أن تمسك العصا من المنتصف إذ حرصت على الإشارة إلى وجود دستور ذي مواصفات جيدة، ولكنها حرصت على تذكير القاهرة بأن هناك انتهاكات لـ"حريات التظاهر والتعبير عن الرأي وحرية الإعلام والصحافة والنظام القضائي وآليات عمل منظمات المجتمع المدني والاختفاء القسري والاحتجاز التعسفي وأحكام الإعدام بموجب إجراءات وجيزة"، لا سيما فيما وصفته أغلب الدول بأحداث العنف لما بعد الثلاثين من يونيو/حزيران 2013.
أسئلة مسبقة بلا رد
كما حرصت دول مثل بلجيكا وسويسرا وألمانيا وهولندا والنرويج والتشيك على تقديم أسئلة مسبقا إلى السلطات المصرية للتمكن من الرد عليها بتمهل. لكن الرد المصري جاء على لسان السفير هشام بدر، مساعد وزير الخارجية لشؤون المنظمات الدولية أمام الاستعراض الدوري الشامل قائلا "إنها مزاعم مبنية على معلومات خاطئة ولا تعني مصر بل هي بالتأكيد تتحدث عن بلد آخر تماما".
بل إن عضو الوفد المصري السفيرة ميرفت التلاوي لم ترق لها التوصيات الرامية إلى تعزيز حقوق المرأة وحمايتها من العنف وأصرت على أن 30 يونيو أنقذت نساء مصر من مخطط الإخوان لختان الإناث وتزويجهن أطفالا والقضاء على كل المكتسبات والحقوق التي حصلت عليها المرأة المصرية، أما المعتقلات في السجون ومن قتلن في المظاهرات وضحايا الاغتصابات فلا وجود لهن.
لم ينته المشهد بعد، إذ لا بد أن تقدم مصر موقفها من كل التوصيات التي وجهت إليها، كمٌّ منها سيتم القبول به، وكمّ سيرفض، وكمّ منها سوف يتم النظر فيه للبحث في كيفية التعامل معه.