استضافة مشار في الخرطوم: قلق جنوبي ومطالبة أميركية بنقله

27 اغسطس 2016
مشار (اليسار) اتهم سلفاكير بمحاولة اغتياله (سمير بول/فرانس برس)
+ الخط -
تتفاعل قضية نقل زعيم "الحركة الشعبية" المسلحة النائب السابق لرئيس جنوب السودان رياك مشار إلى الخرطوم، بعدما غادر الأخير جوبا في يوليو/تموز الماضي إثر اشتباكات عنيفة بين قواته والجيش الحكومي، على خلفية أحداث القصر الرئاسي التي اتهم بعدها مشار الرئيس سلفاكير ميارديت بمحاولة اغتياله.
وكشفت مصادر لـ"العربي الجديد" عن أن الإدارة الأميركية طالبت الحكومة السودانية بنقل مشار من الخرطوم التي يُعالج فيها حالياً إلى دولة جنوب أفريقيا. وجاءت المطالبة الأميركية خلال زيارة وزير الخارجية الأميركي جون كيري، قبل أيام إلى نيروبي، حيث اجتمع بوزراء خارجية دول الهيئة الحكومية للتنمية في شرق أفريقيا "إيغاد" (السودان وجنوب السودان وكينيا وأوغندا وإثيوبيا). وعبّر كيري لنظيره السوداني إبراهيم غندور عن رغبة بلاده بنقل مشار من الخرطوم فوراً واقترح جوهانسبرغ. ورغم تأييد واشنطن لمشار وقناعتها بأنه مؤهل لقيادة جنوب السودان أكثر من سلفاكير ميارديت، إلا أنها تعلم جيداً بالعلاقة الاستراتيجية بين مشار والخرطوم وقيام الأخيرة بدعمه في الحرب ضد الحكومة في جوبا. وكانت الحكومة السودانية قد أعلنت رسمياً الثلاثاء الماضي وجود مشار في الخرطوم، وهو إعلان جاء بالاتفاق مع الحكومة في جوبا، التي أبلغتها الخرطوم بالخطوة بعد أيام من وصول مشار إليها ودخوله "مستشفى الأمل" التابع لجهاز الأمن السوداني.
ووفق مصدر في سفارة جنوب السودان في الخرطوم، فإن الحكومة أبلغت النائب الأول الجديد للرئيس الجنوبي تعبان دينق بالخطوة ليلة وصول الأخير إلى الخرطوم في زيارته الأسبوع الماضي، واتفق الطرفان على أن تُصدر الخرطوم بياناً توضح فيه أسباب استضافة مشار باعتبارها إنسانية بحتة، بسبب إصابة مشار بالإعياء الشديد نتيجة تقرحات في قدمه.
وشكّلت استضافة الخرطوم لمشار، رغم إعلانها بأن الخطوة تأتي في الإطار الإنساني، لغطاً كبيراً بالنظر لعلاقة الخرطوم بمشار واتهامات جوبا للأولى بدعمه. ورأى مراقبون أن الخطوة من شأنها أن تعيد علاقات الخرطوم وجوبا إلى المربع الأول، رغم إعلان الأخيرة مباركتها للخطوة.
وأكدت مصادر في جنوب السودان، أن الحكومة هناك متخوفة جداً من استضافة الخرطوم لمشار وتنظر للأمر بريبة، وخصوصاً بعد الاستقبال الرسمي الذي لقيه تعبان دينق خلال زيارته الأخيرة إلى الخرطوم، رغم اعتراض السلطات السودانية على تعيينه نائباً للرئيس بدلاً لمشار، ما دفع جوبا لاعتبار هذا الاستقبال بمثابة مؤشر على أن الأمر برمته لا يعدو كونه غطاء لاستضافة الخرطوم لمشار، وتدبيراً لأمر ما.
ورأى مراقبون أن استقبال مشار في الخرطوم وراءه دوافع وأجندات سياسية، نظراً للدول الأخرى التي كان يمكن لمشار اللجوء إليها، بينها الدول الأوروبية التي كان يمكن أن يتلقى فيها خدمات علاجية أفضل، إضافة إلى بعض دول الإقليم. ولفتوا إلى أن العلاقة الاستراتيجية بين الخرطوم ومشار كانت السبب باستقباله، لا سيما أن السودان يرى في مشار حليفاً استراتيجياً بسبب ثقله السياسي والقبلي إذا ما قورن بخليفته تعبان دينق، فضلاً عن قناعة الحكومة السودانية أن وصول قبيلة النوير إلى سدة الحكم في الجنوب وحده ما يجعلها تتنفس الصعداء وتعيش في أمان بالنظر لعلاقة تلك القبيلة التاريخية بالسودان.
واعتبر المحلل السياسي محجوب محمد صالح أن الخرطوم ملزمة بأن تتمسك بمشار كنائب أول في الجنوب باعتبارها واحدة من دول الإقليم التي ساهمت في وضع اتفاقية السلام الجنوبي، فضلاً عن تمسكها بنشر قوة حفظ السلام، مشيراً إلى أنها تحاول إيجاد توازن بين مواقفها.
وكان مشار يُلاحق بقوة من قِبل الجيش الجنوبي، وأفادت معلومات بأنه تعرّض إلى كمين قُتل فيه نحو عشرة أشخاص من طاقم حراسته، واستطاع مشار، بعد رحلة سير على الأقدام في الأدغال الجنوبية، النجاة. لكن هذا الأمر وفق مقربين من الرجل أنهكه تماماً، وأدى إلى إصابته بتقرحات في رجليه، زادت من حدتها إصابته بداء السكري الذي يعاني منه منذ سنوات. ووفق مصادر في الخرطوم، فإن الحالة الصحية لمشار باتت مستقرة، وإن لم يتعدَ مرحلة الخطر بسبب تأثر جروح قدميه بمرض السكري.

خلافات أفريقية
أدت عملية نقل مشار بمساعدة الأمم المتحدة وتشاد والسودان إلى دولة الكونغو، إلى أزمة بين الأخيرة وأوغندا، لا سيما أن الكونغو اعتادت على استلام معونات من أوغندا التي لها عداء تاريخي مع مشار، فضلاً عن تأييدها ودعمها اللامحدود لحكومة سلفاكير في جوبا. وذكرت مصادر مطلعة أن أوغندا قدّمت احتجاجاً رسمياً للكونغو بشأن استضافة مشار، الأمر الذي دفع الأخيرة إلى اتخاذ خطوات جدية للخروج من الحرج، وأكدت أن تشاد لعبت دوراً بموضوع نقل مشار إلى الخرطوم، إضافة للدور الذي قامت به عند نقله إلى الكونغو.
ويحبس الجنوبيون أنفاسهم في انتظار تعافي مشار للوقوف على ردة فعله، خصوصاً أنه ظل مختفياً منذ يوليو/تموز الماضي ولم يعلن أي موقف. وتوقّع محللون أن يتخذ مشار ردة فعل قوية تتركز في الأساس ضد خليفته تعبان دينق، باعتبار أن الرجل طعنه في الظهر واستولى على منصبه في أول فرصة أتيحت له، معتبرين أن سلطات جوبا ستكون الرابح من المعارك الداخلية تلك.
فيما رأى آخرون أن تمتّع مشار بالذكاء وقدرته الفائقة على كتم الانفعالات والعمل بهدوء لتحقيق أهدافه، ستقوده نحو انتهاج خط السياسة الهادئة، مشيرين إلى أنه قد يقتنع بالتنحي عن السلطة في جوبا كإجراء تكتيكي لاستحالة العمل مع سلفاكير بعد محاولته أكثر من مرة قتله، خصوصاً أن مشار يعلم تماماً أن الرئيس الجنوبي لن يُقدم على خطوة التنحي. يُذكر أن الرئيس الجنوبي ومشار وقّعا على اتفاقية سلام شامل في أغسطس/آب من العام الماضي لإنهاء الحرب الأهلية بين الطرفين التي استمرت ما يزيد عن عامين ونصف العام، إثر اتهام سلفاكير لمشار فضلاً عن قيادات الحركة التاريخية بتدبير انقلاب ضده.


في سياق آخر، بدأت تحركات أميركية نشطة لتسريع عملية نشر قوة حفظ السلام الدولية المكوّنة من أربعة آلاف جندي وفق قرار مجلس الأمن الدولي. وبحث كيري في اجتماعه مع وزراء خارجية دول "إيغاد" موضوع تلك القوة. وأبلغت مصادر "العربي الجديد" أن كيري شدد أمام الوزراء على أهمية الخطوة، وأكد أن موقف واشنطن هو إعادة مشار لمنصبه نائباً أول للرئيس الجنوبي. وبحسب المصادر، فإن كيري طالب الوزراء بضرورة أن تتخذ بلادهم خطوات جدية في ما يتعلق بحظر السلاح إلى جوبا. لكن مصادر في حكومة الجنوب، أكدت أن جوبا وافقت مبدئياً على نشر القوات الأممية في اجتماع سابق، ولكنها تبحث حالياً عن مكاسب جراء قبولها الخطوة.

مشار والأسطورة
يعتقد البعض أن اسطورة "إنديق" التي تعود لأحد السلاطين في قبيلة النوير (التي ينتمي لها مشار) وتنبأت بحال الجنوب الحالي، هي التي تقف خلف الحرب الشرسة في الجنوب اليوم، خصوصاً بين سلفاكير ومشار اللذين يتصارعان على السلطة، مع تأكيد مقربين من الزعيمين إيمانهما بتلك الأسطورة.
وتقول الأسطورة التي تعددت رواياتها، ونُقلت على لسان سلطان النوير "وإنديق" الذي قيل إنه حارب الاستعمار الانكليزي في السودان، إن حرباً شرسة ستقوم بين السودان الشمالي والجنوبي، ستنتهي بسلام صغير، ثم سلام كبير يتم باكتمال بناء مبنى على شكل "بيضة النعام" (في إشارة إلى برج في قلب الخرطوم شيّده العقيد الليبي الراحل معمر القذافي). ووفق الأسطورة، فإن القائد الجنوبي الذي سيأتي بذلك السلام سيبقى في الحكم أياماً بعدد سنوات حربه وسيحكم بعدها الجنوب أحد أقاربه لفترة قبل أن تشتعل حرب دامية، ينجح في إخمادها وجلب الاستقرار رجل من قبيلة النوير.

ويرى المؤمنون بالأسطورة أن 90 في المائة منها قد تحقق ولم يبقَ منها سوى وصول مشار إلى سدة الحكم باعتبار أنه يتمتع بالصفات الواردة في الأسطورة للحاكم المرتقب. ويعتقد البعض أن الأسطورة هي التي تحرك المشهد الجنوبي الحالي، لا سيما أنها برزت بقوة خلال الفترة الأخيرة، خصوصاً عند نجاح مشار باستعادة عصا السلطان "ماندينق" من متحف في بريطانيا قبل أعوام وإقامة الحكومة في جوبا وقتها احتفالات شعبية لاستقبال تلك العصا، فضلاً عما نشر من تسريبات وقتها من أن سلفاكير ميارديت حرص على ألا يلمس غريمه مشار تلك العصا.
وبالنظر إلى تسلسل الأحداث في دولة جنوب السودان، يُلاحظ أن احتدام الخلافات بدأ منذ إعلان مشار الترشح في الانتخابات العامة التي كانت مقررة في 2015 ومنافسة سلفاكير، ما دفع الأخير لاتخاذ قرارات أقال بموجبها مشار من منصبه كنائب أول فضلاً عن مجموعة من قيادات الحركة التاريخية التي كانت تسعى لتقييد سلطاته في دستور الحزب، وبعدها بنحو خمسة أشهر خرج سلفاكير باتهام مشار بالمحاولة الانقلابية وبدأ مسلسل الحرب. ومع انطلاقة الحرب، أفادت معلومات بأن مشار زار منطقة صاحب الأسطورة، ما اعتبره البعض دلالة على أن مشار رأى أن مرحلته بدأت.