انتقد الرئيس الأميركي دونالد ترامب بشدة سياسات سلفه باراك أوباما في محاربة الإرهاب خلال حملته الانتخابية وبعد دخوله المكتب البيضاوي، إلا أن ترامب مع اقتراب نهاية الأيام المئة المؤسِسة لسياسات إدارته، لم يخط خطوات كبيرة لرسم استراتيجية أميركية جديدة وواضحة لمواجهة الإرهاب، خصوصاً في ما يتعلق بقتال تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) في العراق وسورية.
وكان عنوان ترامب الأبرز لمواجهة الإرهاب، يتركز على حماية الأراضي الأميركية و"منع دخول إرهابيين محتملين" إلى الولايات المتحدة، من خلال ما يُعرف إعلامياً بمشروع "حظر دخول المسلمين" والذي حاول ترامب تمريره مرتين من خلال قرارات تنفيذية، إلا أن القرارين تم تجميدهما من محاكم فيدرالية. ما يعني أن الرئيس الأميركي فشل في فرض رؤيته الوحيدة الواضحة والمعلنة لمواجهة الإرهاب.
أما عسكرياً، فيبدو أن ترامب يسير على استراتيجيات أوباما، في العراق وسورية. إلا أن التعقيدات التي تواجهها الإدارة الأميركية الجديدة اليوم أكبر، خصوصاً في المواءمة بين التعاون مع العضو في حلف شمال الأطلسي تركيا، وحلفاء أميركا على الأرض في سورية، المليشيات الكردية.
ويمكن قراءة ملامح استراتيجيات ترامب الحالية لمواجهة الإرهاب في ثلاثة سياقات، الأول التركيز على "أولوية مواجهة الإرهاب" كما عبّر عنها وزير الخارجية ريكس تيلرسون، والثاني تقديم دعم أكبر لحلفاء الولايات المتحدة في اليمن، كما أكد وزير الدفاع، جيمس ماتيس. أما الملمح الثالث، فهو الرغبة الأميركية بالبقاء على الأرض في العراق، والتي عبّر عنها ماتيس أيضاً في وقت سابق الشهر الماضي. مع التأكيد على ضرورة دفع حلفاء واشنطن "التزماتهم المالية" في جهود مواجهة تنظيم "داعش".
إيران أم "داعش"؟
لا يبدو أن الإدارة الأميركية الجديدة متفقة بصورة حاسمة حول أولوياتها في المنطقة. ففي الوقت الذي يشدد فيه وزير الخارجية، ريكس تيلرسون، على أن "هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية" هو الهدف الأول لأميركا في المنطقة، يُظهر وزير الدفاع جيمس ماتيس، ومستشار الأمن القومي هربرت رايموند ماكماستر اهتماماً أكبر بمواجهة السياسات الإيرانية. وقال تيلرسون خلال الاجتماع الأكبر للتحالف الدولي لمحاربة تنظيم "داعش"، والذي حضره ممثلو 68 دولة خلال شهر مارس/آذار الماضي: "أنا أعترف بوجود عدة تحديات في الشرق الأوسط، لكن هزيمة تنظيم داعش الهدف الأول للولايات المتحدة في المنطقة". وأضاف تيلرسون: "كما قلت من قبل، عندما يكون كل شيء أولوية، فلا توجد أولويات. علينا أن نواصل التركيز على أكثر القضايا إلحاحاً" في إشارة إلى محاربة "داعش".
في الوقت نفسه، كشفت صحيفة "واشنطن بوست" عن مذكرة رفعها ماتيس للبيت الأبيض، يطلب فيها من ترامب رفع القيود المفروضة من عهد أوباما على الدعم العسكري المقدّم للتحالف العربي في اليمن الذي تقوده السعودية منذ مارس/آذار 2015. واعتبر ماتيس أن دعم عمليات السعودية والإمارات في اليمن، خصوصاً خطط السيطرة على ميناء الحديدة الذي تسيطر عليه المليشيات الانقلابية، سينعكس إيجاباً على المصالح الأميركية في اليمن، ولا سيما خطط مواجهة الإرهاب.
وأشارت "واشنطن بوست" إلى طلب الإمارات مساعدة القوات الخاصة الأميركية في عملية استعادة ميناء الحديدة، الطلب الذي لم يشر إليه ماتيس في مذكرته للبيت الأبيض. وكان أوباما، قد دعم عمليات "عاصفة الحزم" في اليمن من خلال مستشارين عسكريين أميركيين، والموافقة على مبيعات أسلحة وذخائر أميركية للسعودية، إلا أنه وضع قيوداً صارمة على هذا الدعم، وقلّص عمل المستشارين، كما جمد بعض مبيعات الأسلحة، بسبب التقارير الحقوقية المنتقدة لسير عمليات التحالف، والتي تشير إلى تكبد المدنيين خسائر فادحة في القصف الجوي.
وسيكون رفع قيود البيت الأبيض عن البنتاغون خطوة هامة لصالح السعودية والإمارات، لكنه سيكون تغيراً نوعياً في الدعم أكثر من كونه توجّهاً جديداً، إذ إن الولايات المتحدة كانت مؤيدة لعمليات التحالف العربي في اليمن ضد المليشيات الانقلابية منذ البداية. وكانت السعودية قد طالبت في وقت سابق بوضع ميناء الحديدة تحت سيطرة الأمم المتحدة، الأمر الذي رفضته المنظمة في وقت سابق، وسط توقعات بقرب عمليات استعادة الميناء من المليشيات الانقلابية. وتُتهم إيران بتهريب أسلحة إلى الحوثيين عبر الميناء، بالإضافة إلى مخاوف دولية من تعطل حركة المرور البحرية في باب المندب بسبب سيطرة المليشيات على المنطقة.
بقاء في العراق
بعد انسحاب القوات الأميركية الرسمي من العراق في 2011، التوقيت الذي وضعه الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الابن، وجدت الولايات المتحدة نفسها مضطرة للعودة مجدداً إلى العراق، تحت وقع إعلان داعش "خلافته" بعد سيطرته على الموصل، ثاني أهم المدن العراقية. بدأ سلاح الجو الأميركي بتوجيه ضربات جوية ضد التنظيم في سبتمبر/أيلول 2014، وبادرت الولايات المتحدة بإرسال "مستشارين عسكريين" إلى العراق، بلغ عددهم قرابة 800 مستشار تمركزوا في قاعدة أربيل، ليشرفوا على تشكيل القوات العراقية لمحاربة تنظيم "داعش" الذي كان يسيطر على ما يقارب 40 في المائة من الأراضي العراقية آنذاك.
اليوم، يرث ترامب وجود 12 ألف عسكري أميركي في الأراضي العراقية، موزعين على ست قواعد عسكرية، اثنتان منهما في بغداد واثنتان في الأنبار وواحدة في نينوى وأخرى في أربيل. وكان لترامب موقف مضطرب من العراق، قبل توليه الرئاسة. فهو معارض لاحتلال العراق، ومعارض للانسحاب منه. وأكد أن على الولايات المتحدة "أخذ النفط العراقي" ومغادرة البلاد. واليوم يبدو أنه في صدد التورط أكثر فأكثر في البلاد، لكن هذه السياسة بدأها سلفه أوباما دون شك.
الجديد في الإدارة الأميركية، تأكيدات ماتيس أن القوات الأميركية ستبقى في العراق، حتى بعد هزيمة تنظيم "داعش". وكان ماتيس قد أكد أمام مجلس الشيوخ، أن الولايات المتحدة بحاجة للبقاء في العراق لسنوات مقبلة، لدعم القوات العراقية في مواجهة "داعش"، الأمر الذي أكده أيضاً رئيس هيئة الأركان الأميركية المشتركة، جوزيف دانفورد. ما يعني أن المطاف سينتهي بترامب إلى البقاء طويلاً في العراق، وربما التورط أكثر عسكرياً في المنطقة، الخطوة التي حاول أوباما تجنبها من دون جدوى.
وربما يهدف بقاء الولايات المتحدة لدعم القوات العراقية إلى تقديم ضمانات للأكراد والسنّة العرب، لمنع تجاوزات "الحشد الشعبي" من جهة، وظهور تنظيمات متطرفة أخرى، أو "النسخة الثانية من داعش" بعد استعادة الموصل وهزيمة التنظيم في العراق، من جهة أخرى.
مأزق تركيا
لكن التعقيد الأكبر في استمرار استراتيجية أوباما في مواجهة الإرهاب، والتي يسير عليها خلفه ترامب، يتعلق بالجانب التركي. فالولايات المتحدة اعتمدت على المليشيات الكردية لمحاربة تنظيم "داعش" في سورية، الأمر الذي تسبّب بخلافات واسعة مع أنقرة. وكرر مسؤولون أتراك بصورة واضحة رفضهم الاستعانة بـ"منظمات إرهابية لمحاربة تنظيم داعش" في إشارة إلى "قوات سورية الديمقراطية"، و"وحدات حماية الشعب".
ولا يبدو أن الولايات المتحدة في صدد التخلي عن المليشيات الكردية التي عملت معها بصورة واسعة في سورية منذ 2014، كما أن ترامب لا يريد أن يضحي بالعلاقات مع تركيا التي ساءت في عهد أوباما، ما يعني أهمية بناء استراتيجية جديدة في سورية، لا يبدو أن ترامب مستعد لها اليوم.
وتشير توقعات إلى رغبة الأميركيين بالقيام بدور كبير في استعادة مدينة الرقة من تنظيم "داعش"، لضمان موطئ قدم لها في سورية بعد سيطرة الروس على مدينة حلب. الأمر الذي لن يحدث إلا بتفاهمات مع تركيا. وتصر تركيا من جهتها على القيام بدور أكبر في معركة الرقة، بعد أن تم تهميشها بصورة كبيرة في عمليات استعادة الموصل.
مقابل ذلك، بدأت تبرز تحوّلات في الموقف الأميركي من رئيس النظام السوري بشار الأسد، وهو ما عبّرت عنه بشكل واضح السفيرة الأميركية لدى الأمم المتحدة نيكي هيلي، التي أعلنت الخميس الماضي أن واشنطن لم تعد تركز على إسقاط الأسد وتسعى إلى إيجاد سبل لإنهاء الحرب في سورية. وصرحت هيلي للصحافيين: "يختار المرء المعركة التي يريد خوضها... وعندما ننظر إلى هذا الأمر نجد أنه يتعلق بتغيير الأولويات، وأولويتنا لم تعد التركيز على إخراج الأسد" من السلطة. وجاءت تصريحات هيلي بعد أن أشار تيلرسون إلى تغيير في الموقف الأميركي بإعلانه الخميس خلال زيارته إلى تركيا أن تحديد مصير الأسد يعود للشعب السوري.
التزامات مالية
في سياق محاربة الإرهاب أيضاً، يشدد ترامب على ضرورة دفع حلفاء الولايات المتحدة "التزاماتهم المالية" إن كان في استراتيجية حلف شمال الأطلسي (ناتو) والتي تتعلق بضرورة ألا تقل الموازنات العسكرية لأعضاء الحلف عن 2 في المائة سنوياً من الموازنة العامة، الأمر الذي لا تلتزم به عدة دول أبرزها ألمانيا، أو من خلال المطالبة بتحمل حلفاء أميركا في المنطقة لأعباء مالية، مقابل قيادة الولايات المتحدة العمليات ضد تنظيم "داعش" في العراق وسورية. وكان تيلرسون أكد على أهمية دفع دول التحالف الدولي لمحاربة "داعش" التزاماتها المالية، والتركيز على مواجهة التنظيم، باعتباره أولوية مطلقة، خلال اجتماعات أعضاء التحالف التي عقدت في واشنطن قبل أيام.
ويخطط ترامب لزيادة تُقدر بـ9 في المائة في الموازنة العسكرية الأميركية (ما يقارب 54 مليار دولار)، في الوقت الذي لم يحدد بعد أوجه صرف هذه الزيادة على نحو دقيق، إلا أن جزءاً كبيراً منها سيُوجّه للصناعات العسكرية، في ظل توجّه الإدارة الأميركية للاعتماد أكثر فأكثر على قوتها العسكرية، وفق تخفيض للنفقات المقدمة لوزارة الخارجية، ما اعتُبر تلويحاً بـ"العصا" لتعزيز المصالح الأميركية حول العالم.