ارفع رأسك.. أنت عراقي

22 ابريل 2015
+ الخط -

يشبه حال العراقيين، اليوم، حال استراجون وفلاديمير، بطلي رواية صموئيل بيكيت "في انتظار غودو"، فهم منذ أكثر من عشر سنوات يمارسون لعبة الانتظار، انتظار المنقذ أو المخلص أو الحلم، وعندما يصبح الانتظار مملاً، ويكتشفون أن "لا شيء يحدث، لا أحد يجيء"، يبحثون عن فسحة متعةٍ وتسلية، وسط مصائب تنزل على رؤوسهم، على مدار الساعة، وقد وجدوها، في الأسبوع الأخير، في اكتشاف مواقع تواصل اجتماعي وصحف فضيحة مواطن بسيط، اسمه رافد جبوري، قدر له أن يتسنم موقعاً مهماً في حكومة الاحتلال السادسة، وأن يكون ناطقاً باسم رئيس الوزراء، مثل الناطق بلسان البيت الأبيض، جي كارني، وترتبط الفضيحة التي أضحكت العراقيين طويلاً، وشر البلية ما يضحك، بأغنية كان غناها جبوري لصدام حسين قبل خمسة عشر عاماً. يومها، وقّت جبوري ساعته على عصر صدام، ولم يتخيل أنه سيتقلد الموقع المهم الذي تقلده بعد الاحتلال، في بلاده، وإلا لأحجم عن الغناء، لا لصدام ولا لغيره، ولكرس نفسه لتلاوة رواية "المقتل"، واستعادتها، في مجالس العزاء، كما كان يفعل بعض وزراء الاحتلال وأعضاء برلمانه الذين أتتهم المناصب تجر أذيالها، فلم تكن إلا لهم، ولم يكونوا إلا لها!

اعترف جبوري المسكين خطياً، وبلسانه، بالمأزق الذي أوقع نفسه فيه، بكامل وعيه وإرادته، وإن عزا ذلك إلى "صغر سنه وافتقاره الحكمة"، وهو في واقع الحال لم يكن مجبراً، وإنما كان، مثل بعض عباد الله في ذلك الزمان الذين يبغون الشهرة، متطوعاً للغناء في تمجيد عصر صدام والتغني به، وقد اختار لأغنيته استهلالاً جميلاً وذكياً، يشفع له في فعلته، والاستهلال يذكّر كل عراقي بعراقيته التي تأبى الذل، وتتمرد على الهزيمة، هو يقول "ارفع رأسك أنت عراقي"، وتظل "رفعة الرأس" مطلوبة من العراقيين الذين أوقعتهم حظوظهم العاثرة تحت احتلالين، لا أمر منهما، ولا أقسى!

نعود إلى "فضيحة" جبوري التي أردفها لاحقاً بفضيحة ذات دلالة أيضاً، هي في عمله إلى جانب حيدر العبادي "لأنه يشبهني، ويشبه المستقبل الذي أفكر فيه"، كما قال. ولذلك، أدار عقرب ساعته، مرة أخرى، ليوقتها على عصر الاحتلال، وخمّن أنه سيكون العصر الذي يمطر عليه سمناً وعسلاً، كما أمطر على غيره الذين انتقلوا من حال إلى حال. ولم يغفر مكتشفو الفضيحة لرافد خطيئته، حتى أوغروا صدر العبادي عليه، فأقاله من موقعه، ليريحهم ويستريح، وحده جبوري دخل دائرة الظل، وربما لن يخرج منها إلى الأبد.

وفي بلد مثل العراق، وقد أصبح بامتياز بلد الفضائح العجيبة، تبدو فضيحة جبوري من التفاهة والصغر، بحيث لا تستحق حتى مجرد الإشارة إليها، إذ إن عراق ما بعد (التحرير!) مسكون بفضائح أكبر منها حجماً، وأكثر شراً، فضائح مكرسة ومعلنة، يفاخر أبطالها بها، وأكثرهم سياسيون وقادة بلاد، وليس في حجم مواطن مسكين، مثل رافد جبوري الذي فقد وظيفته، فيما هم يظلون سياسيين كباراً وقادة، يتبادلون المواقع، وينهبون ثروات البلاد، ولا يأبهون حتى بالحملات التي تطالب بإقالتهم أو محاسبتهم، بل إنهم يشرعون القوانين التي تجعل السحت الحرام الذي يأكلونه حلالاً، وتحميهم من غائلات الدهر ونوائبه!

مبكراً، اكتشف بول بريمر الذي حكم العراق بعد الاحتلال هذا النمط من السياسيين والقادة، إذ قال، إن الأميركيين لم يجدوا من بين معارضي صدام الذين تعاونوا معهم في احتلال العراق شخصيات أمينة ووطنية، يمكن أن تحكم العراق، ووصف الذين تم اختيارهم بأنهم لم يكونوا مؤهلين ليصبحوا حكاماً وقادة، إذ كل دأبهم التنافس على المكاسب الشخصية التي ينوون جنيها، والتآمر فيما بينهم من أجل ذلك، وهم، أيضاً، لا يتمتعون بتأييد أبناء شعبهم، ويفتقرون إلى المصداقية، وآخر ما فعلوه، بحسب بريمر، أنهم كانوا يقفون بوجه إعادة السيادة إلى شعبهم، أي أنهم يريدون أن يظلوا عبيداً!

وبعد .. فعلى يد هذه "النخبة"، وبفعلها الشرير، تحول العراق إلى بلد الفضائح العجيبة، إلى درجة أن أهله، وقد مارسوا لعبة الانتظار، أكثر من عشر سنوات، ملوا اللعبة نفسها، ولم يعودوا في وارد انتظار أحد، حيث "لا شيء يحدث، لا أحد يجيء"، وليس أمامهم سوى البحث عن فسحة متعة وتسلية، وسط المصائب التي تنزل على رؤوسهم على مدار الساعة، وقد وجدوا متعتهم، هذه المرة، في فضيحة رافد جبوري، وفي أغنيته ذات الاستهلال الجميل والذكي "ارفع رأسك أنت عراقي".

583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"