اخرجوا من جرحنا

09 ابريل 2015

في تضامن مع مخيم اليرموك في غزة (getty)

+ الخط -
ما من أمل يحدو أهالي مخيم اليرموك بحملة عسكرية دولية، تدفع الموت قليلاً عن حيواتهم المهددة بويلات الحرب والجوع والعطش. ما من حلم يراود الناس هناك بـ "عاصفة حزم" إقليمية، تنقذهم مما هم فيه، ولا حتى بأن تتشكل لأجلهم زوبعة صغيرة في فناجين العرب. وحدها الكوابيس المروعة هي التي تطارد، الآن، من تبقى منهم على قيد الحياة اليائسة، وقد باتوا محشورين داخل أزقة مسدودة بسكاكين الذباحين القادمين، للتو، من كهوف التاريخ، وتحت "سماء قومية"، ما انفكت تهطل عليهم، براميل متفجرات، ومعها كل ما تعرفون من شعارات المقاومة والممانعة والكفاح الذي لا يلين لتحرير فلسطين.
هل كان لدى هؤلاء خيار آخر، سوى الوقوع بين فكّي الوحشية المنفلتة من كل عقال، أم تراه قدرهم الذي لا مفر منه، أن يجدوا أنفسهم في بقعة جغرافية صغيرة، لا هي بأهمية "عين العرب" أو "كوباني" الكردية، الواقعة عند حافة استدراج تركيا إلى التورط في مستنقع حروب الطوائف، ولا هي بخطورة "رئة العرب" أو عدن اليمنية التي ظلت تُقعي بفقرها، عشرات السنين، عند مضيق باب المندب، قبل أن ينتبه العرب إلى جحافل الفرس، تتقدم إليها، لتتحكم، من شواطئها، بأهم مضائق المرور بين أرض الذهب الأسود وبلاد الإنسان الأبيض؟
هنا، باختصار، مخيم فلسطيني "لا راح ولا جاء"، كما يقال في العامية الدارجة، وقد مرَّ سكانه، على مدى أربعة أعوام مضت، بما مرَّ فيه سكان مدن وقرى سورية كثيرة، فمات من مات منهم، بفعل مدافع طاغيةٍ يُدعى بشار الأسد، وفر من استطاع الفرار، حتى لم يبق فيه سوى ثمانية عشر ألف نسمة، من أصل مائة وثمانين ألفاً، أمام تخاذل العالم نفسه الذي سارع إلى تجييش الجيوش بذريعة تحرير "عين العرب"، وعلى مرأى، من العرب أنفسهم، الذين تبيّن أن لديهم أسلحة وطائرات حربية حديثة، في وسعها أن تقصف، وأن تمنع الظلم، من أن يتغول على البلاد والعباد، إن أراد أصحابها، أو تعرضت مصالحهم للتهديد.
هنا، باختصار، أيضاً، يكتفي المجتمع الدولي بالتعبير عن قلقه، ويستخرج النظام الرسمي العربي من أرشيفه بيانات تنديد بذبح مخيماتٍ سابقة، ليعيد بثها، رفعاً للعتب، بعدما جاء في الأخبار أن تنظيم الدولة الإسلامية المعروف باسم "داعش" استطاع السيطرة على ثلاثة أرباع مخيم اليرموك، متغلباً على "كتائب أكناف بيت المقدس"، ووسط تواطؤ تنظيمات معارضة للنظام السوري كجبهة النصرة، وموالية له كجماعة أحمد جبريل، بينما واصلت مروحياته قصفها المعتاد، للسكان، أو لعلها عززته، على ما نقل شهود عيان، إمعاناً منها في اللعبة الجهنمية التي أحرقت البلد، لكي يبقى الأسد.
هنا، باختصار، أيضاً وأيضاً، لن يقول لك "الدواعش" لماذا يقتحمون مخيماً فلسطينياً تسيطر عليه المعارضة السورية المسلحة، وتحاصره قوات الأسد، منذ سنين، لكن صفحات التاريخ القريب تنبئك، إن شئت، أن هؤلاء، ومن لف لفهم، من أتباع جبهة النصرة، وكل المنحدرين من تنظيم القاعدة، لم يطلقوا، في يوم من الأيام، رصاصة واحدة على إسرائيل، وأنهم اختاروا منذ فجر ظهورهم، في ثمانينيات القرن الماضي، ترك فلسطين تكابد الاحتلال، وهاجروا لـ "يجاهدوا" ضد الوجود الروسي (السوفييتي) على أرض أفغانستان، في إطار خطط وأجندة الولايات المتحدة الأميركية التي صاروا يزعمون معاداتها.
ولأن الشيء بالشيء يُذكر، فإن مخيم اليرموك شهد، إبان حقبة الثمانينيات من القرن الماضي، جنازات الآلاف من أبنائه وأبناء المخيمات الأخرى الذين سقطوا في صراع ضار مع إسرائيل، ودفنوا على أرضه، في أكبر مقبرة للشهداء الفلسطينيين، وهي مقبرة دمرتها، أخيراً، صواريخ الأسد، ويفاخر الفاتحون الجدد، أو من يظنون أنفسهم كذلك، بالتقاط الصور التذكارية على مقربة منها، متجاهلين صراخ الأموات والأحياء بهم، قائلين "اخرجوا من جرحنا".

















EA99C928-BF02-4C77-80D6-9BE56F332FDE
ماجد عبد الهادي

صحفي وكاتب فلسطيني