اختيارات مهرجان وحيرة ناقد: تساؤلات مهنيّة

22 ابريل 2019
إيليا سليمان: حضور دائم في "كانّ" (فيسبوك)
+ الخط -
تُعلن إدارة مهرجان سينمائي دولي، مُصنَّف فئة أولى، لائحة الأفلام المختارة لدورته الجديدة، فيحتار الناقد إزاء كيفية التعامل معها. أفلام حديثة الإنتاج، ستُعرض للمرة الأولى دوليًا؛ أي أنّها غير مُشاهَدة أبدًا. المعلومات المنشورة عن حكايات تلك الأفلام غير كافية لمعرفة محتوياتها المتكاملة. أسماء المخرجين أيضًا لن تُتيح معرفةً وافيةً للمحصّلة النهائية للصنيع الجديد. القول إن اختيار جديدِ مخرجٍ سينمائيٍّ، كتيرينس ماليك مثلاً، كفيلٌ بانتظار مهمّ ما، غير كافٍ، رغم إمكانية "التنبّؤ" باحتمالاتٍ مُثيرة للاهتمام والمتع البصرية، يُقدّمها هذا الجديد، بناء على السيرة المهنيّة للمخرج. 

هذا شأن صحافيّ بحت، مطلوب ومهمّ، فالمُشاهد السينمائيّ محتاج إلى معلومات عن كلّ جديد، بانتظار مُشاهدته، وما على الصحافي السينمائيّ إلاّ نشر ما لديه من تلك المعلومات، المختَصَرة بمضامين الأفلام، وأسماء العاملين فيها، والجهات الإنتاجية. الباقي منوطٌ بالصحافي نفسه، كأن يُضيف خلاصة متابعته المديدة مسار مخرجٍ، يستعيد ـ بمناسبة اختيار جديده في هذا المهرجان أو ذاك ـ سيرةً وأفلامًا وسجالاتٍ. كأن يُضيف أيضًا حضور هذا المخرج أو تلك الممثلة أو ذاك المُصوِّر السينمائي في المهرجان، الذي يختار جديدًا لأحدهم، علمًا أنّ الغالبية الساحقة من النقّاد والصحافيين السينمائيين، الذين ينشرون تلك المعطيات مع الإضافات الممكنة، يتغاضون غالبًا عن فنانيّ العمل السينمائي، كصانعي الصورة والتوليف والإضاءة والأزياء والديكورات والكتابة، وغيرها.

المهنة تتطلّب جهدًا، ولو قليلاً، يقدِّم ما يلزم لقارئ مهتمّ بالسنيما. صحيح أنّ معطيات كهذه تُنشر سريعًا في كمّ هائل من المواقع ووسائل التواصل، بلغات عديدة، يُتقن المهتمّ بعضها؛ وصحيح أنّ شبكة "إنترنت" ووسائل التواصل كفيلةٌ بإيصال المعطيات نفسها إلى المهتمّ بأسرع وقتٍ ممكن. لكن: إلى أيّ حدّ يُمكن للمهتمّ بالسينما الركون إلى ما تنشره تلك الوسائل المختلفة، التي لا رقيب ولا حسيب ولا مُكترث يحول دون وقوعها في أخطاء، مقصودة أو غير مقصودة؟ ألن تكون سرعة إيصال المعلومات السينمائية سببًا لعدم التدقيق فيها (المعلومات)؟ هل يحتاج المهتمّ إلى سرعة إيصال معلوماتٍ، تتفوّق (السرعة) على صحّتها؟


مهمّة الناقد والصحافي السينمائي تكمن، من بين أمور كثيرة أخرى، في التدقيق والتنقيح والتنبّه، كي تكون الكتابة مصدرًا يلجأ إليه المهتمّ. مُصيبة النقد والصحافة السينمائية كامنةٌ في التفلّت الكبير الذي تُسبِّبه شبكة "إنترنت" ووسائل التواصل المختلفة، بإضافة مصيبة أخرى تتمثّل في تلك الآراء "التحليلية" والأحكام "الأخلاقية" التي تُساق إزاء فيلمٍ أو مخرجٍ أو ممثل، من دون وعي معرفي بالتفاصيل التي يُفترض بها أن تُعين المحلِّل على تصويب رأي أو معالجة. وإذْ تُفْتَقد آليات التدقيق والتنقيح والتنبّه في الشبكة والوسائل (العربية بالتأكيد، فالغربيّة ـ بمعظمها ـ أصدق وأكثر علميّة ومتابعة)، فإنّ مسألة إطلاق آراء وتحاليل، عشوائيًا وانفعاليًا (وهذا ربما يكون مُبرَّرًا إلى حدّ ما، فهو ملائم لوسائل التواصل الاجتماعي، الملاذ "الآمن" للفرد والمساحة الشاسعة لممارسة "حرية" مطلقة في كلّ ما يبوح به على صفحته الخاصّة)، تعطِّل نقاشًا يجب أن يكون أهدأ وأعمق وأكثر عقلانيّة ووعيًا معرفيًا؛ في مقابل تمسّك نقّاد وصحافيين سينمائيين بمصداقية عمل ومهنة ورأي وتحليل، في كتاباتهم المنشورة في مواقع، أو وسائل تواصل، أو مطبوعات مختلفة. 

عربيًا، يغتنم الناقد والصحافي السينمائيّ فرصة الإعلان عن الأفلام المختارة لهذا المهرجان الدولي أو ذاك، كي يستعيد ماضيًا مرتبطًا بالجغرافية التي يُقيم فيها. الإعلان الرسمي عن الأفلام المختارة للمسابقة الرسمية، الخاصّة بالدورة الـ72 (14 ـ 25 مايو/أيار 2019) لمهرجان "كانّ" السينمائي الدولي (18 إبريل/نيسان 2019) مثلاً، دافعٌ إلى التفتيش عن كلّ ما له علاقة بالعالم العربي. ورود اسم الفلسطيني إيليا سليمان في اللائحة نفسها، بمشاركته في المسابقة الرسمية بفيلم جديد له بعنوان "يجب أن تكون الجنّة" (أو السماء، وللترجمة العربية للعناوين الإنكليزية أو الفرنسية للأفلام نقاشٌ آخر، إذْ تكون الترجمة حرفية غالبًا قبل المُشاهدة، وتتبدّل لاحقًا بحسب المحتوى والسياق والفضاء الدرامي)، يحثّ على مسألتين اثنتين على الأقلّ: استعادة تاريخ العلاقة القائمة بين المهرجان والمخرج، والتنبّه ـ بهدف التنبيه والتذكير ـ إلى الحضور العربي المتنوّع في المهرجان نفسه. يُمكن قول الأمر نفسه بالنسبة إلى مخرجين أجانب، يحرّضون على استعادةٍ وحضورٍ شبيهين بالحالة العربية أيضًا.

صحافيًا، هذا منتمٍ إلى مفردات المهنة. لا بأس بالتذكير، فالنتاج العربي يزداد حضوره في محافل سينمائية دولية، عامًا تلو آخر، وبعضه ينال جائزة أو أكثر، لسببٍ أو لآخر. لكن سؤالاً يُطرح: ما الفائدة من تكرار الأمر نفسه مع كلّ إعلانٍ عن حضور عربيّ في محفل سينمائي دولي، إنْ يظهر هذا الحضور سنويًا، أو بين فترة قليلة وأخرى؟ هذا شبيهٌ بالجوائز الدولية أيضًا: نيلُ فيلمٍ عربيّ ترشيحًا رسميًا لجائزة ما كفيلٌ باستعادة متكرّرة لعربٍ ينالون ترشيحًا رسميًا هم أيضًا لـ"الجائزة" نفسها، في أعوام سابقة. الفوز بجائزة ما يفضي إلى الأمر نفسه. ما الداعي إلى التكرار إذًا، طالما أن الأرشيف الأجنبي مليء بتلك المعلومات، والحصول عليها مُتاح بوسائل مختلفة؟

بعض جوانب المهنة الصحافية، وإن يتكرّر بين حينٍ وآخر، مطلوب، فهو يُشكِّل إحدى مفردات العمل. المنشور، ورقيًا أو إلكترونيًا، جزءٌ من متابعة ترتاح إليها مؤسّسات صحافية، وتنتبه إليها إدارات مهرجانات دولية عديدة، عبر مكاتبها الصحافية والإعلامية. أما النقد، فلاحقٌ، وغالبًا ما ينتظر النقّاد مرور وقتٍ على المُشاهدة، كي يتمّكنوا من كتابة أهدأ وأعمق، بينما ترتكز كتاباتهم الأولى، أثناء انعقاد هذه الدورة أو تلك، على مزيجٍ من الانطباع الأول والتحليل المختَصَر والنقاش الذي يُفترض به أن يتطوّر فيما بعد.
المساهمون