اختلاف خطاب "الممانعة" للنظام السوري
تجاه العدوان على غزة
وكان الغائب الأكبر عن هذه المعادلة هو المحور الذي اصطلح على تسميته بمحور "الممانعة"، ويضم إيران وسورية وحزب الله. ومن بين هؤلاء، يستدعي موقف النظام السوري أهمية خاصة، في نقاش فكرة دعم المقاومة الفلسطينية، لتباينه بحسب الظروف السياسية التي تمر بها المنطقة العربية، وارتباط الموقف من دعم المقاومة عمومًا بمصالح النظام وسياساته، خصوصاً في ظل ظروف الثورة عليه.
حماس في محور المقاومة!
كان مطلب وقف دعم حركتي المقاومة الفلسطينيتين، حماس والجهاد الإسلامي، وإخراجهما من الأراضي السورية باعتبارهما "جماعتين إرهابيتين"، على قائمة الشروط التي وضعها وزير الخارجية الأميركي، كولن بأول، أمام النظام السوري في زيارته دمشق في 3 مايو/ أيار 2003. لكنّ الضغوط الأميركية لم تفلح في إخراج القيادات الفلسطينية المقيمة في دمشق؛ إذ تعثّر المشروع الأميركي في العراق، وصمدت حركات المقاومة في فلسطين ولبنان، في مواجهة محاولات إسرائيل المتكررة سحقها. وتشكّل، إثر ذلك، ما أصبح يعرف بمحور "الممانعة" أو "المقاومة"، وضمّ إلى جانب سورية، إيران وحركتي حماس والجهاد الإسلامي وحزب الله اللبناني.
وعندما شنت إسرائيل عدوانها على قطاع غزة في 28 ديسمبر/كانون أول 2008، قادت سورية نشاطًا دبلوماسيًا مشتركًا مع دولة قطر، لعقد قمة عربية طارئة، للعمل على وقف العدوان، إلا أنّ دول "الاعتدال العربي" حينها نجحت في منع اكتمال النصاب القانوني لعقد القمة، ما دفع سورية وقطر إلى عقد قمةٍ سميت "قمة غزة" في الدوحة في 16 يناير/كانون ثاني 2009، وجمعت دولًا عربية وغير عربية اتفقت على الوقوف ضد العدوان الإسرائيلي، ودعم صمود الشعب الفلسطيني. أما على الصعيد الميداني، فقد قامت سورية بإسناد الجهد الحربي لحركة المقاومة الإسلامية "حماس"، عبر إبلاغها عن توقيت الطلعات الجوية الإسرائيلية التي كانت ترصدها الرادارات السورية، كما أطلقت الحكومة حملة تبرعات شعبية لدعم أهالي غزة.
حماس خارج محور المقاومة!
مع انطلاق الثورة السورية في 15 مارس/آذار 2011، حاولت قيادة "حماس"، بما لها من رصيد شعبي ورسمي داخل سورية، المساهمة في احتواء الأزمة عبر وساطةٍ، قامت بها بين النظام والقطاعات الشعبية المنتفضة ضده والقوى السياسية المعارضة له. وكان جوهر الوساطة يقوم على أن توقف الحكومة السورية استخدام العنف، وتبدأ خطواتٍ إصلاحية جدية، تفضي إلى وقف الاحتجاجات. إلا أنّ السلطات السورية رفضت أي دور لحماس في تهدئة الأوضاع. ومع تطور الحركة الاحتجاجية، من مظاهرات سلمية إلى العمل العسكري، نتيجة استخدام العنف ضد المحتجين في المدن والقرى السورية، طالب النظام الحركة الوقوف إلى جانبه، من دون قيد أو شرط، وكذلك طلبت إيران عبر موفدها قاسم سليماني. وعندما رفضت حماس ذلك، ازدادت حدة التوتر بين النظام السوري وحركة حماس. وبالنتيجة، بدأت قيادات من حماس مغادرة سورية، اعتبارًا من ديسمبر/ كانون أول 2011. وفي نوفمبر/ تشرين ثاني 2012، أغلقت السلطات السورية مكاتب حماس في دمشق نهائياً. أما حركة الجهاد الإسلامي فظلت تحتفظ بعلاقاتها مع السلطات السورية، إذ لم تتخذ موقفًا صريحًا ضد النظام، وإن كانت دعت إلى الحوار بين الأطراف السورية المختلفة، وتقديم "تنازلات مؤلمة لحقن الدماء والحفاظ على وحدة سورية". ومع ذلك، غادر أمينها العام، رمضان شلح، إلى القاهرة في أغسطس/ آب 2012 نظرًا للأوضاع الأمنية المتردية في دمشق، وكان في أثناء الحرب الأخيرة على غزة مقيمًا في بيروت كما يبدو.
أثّر موقف النظام السوري تجاه حركة حماس، والتي رفضت تأييده في قمع شعبه، في مجمل مواقفه من دعم المقاومة؛ فعندما قامت إسرائيل بعدوانها على قطاع غزة في 14 نوفمبر/ تشرين ثاني 2012، صدر عن الحكومة السورية، طوال أيام العدوان، بيان مقتضب في اليوم الأول فحسب، إذ شجب العدوان، وندّد باغتيال القيادي في حركة حماس، أحمد الجعبري، ووصفه بالشهيد. وفي الوقت نفسه، قامت الصحف المحلية والإعلام الرسمي بتغطية تطورات العدوان يومياً. وفي القنوات غير الرسمية ووسائل التواصل الاجتماعي، ظهرت آراء وكتابات لمؤيدي النظام، تنتقد مواقف حركة حماس من الأزمة السورية، وتشكّك في قدرتها على الصمود في وجه العدوان الإسرائيلي.
رمضان شلح في مهرجان خطابي بمخيم اليرموك (أغسطس 2006/أ.ف.ب) |
لم يتغير الموقف السوري كثيرًا في عدوان إسرائيل الأخير على قطاع غزة؛ إذ صدرت بيانات إدانة من القيادة القطرية لحزب البعث العربي الاشتراكي ومجلس الشعب في 12 يوليو/ تموز 2014، ومن الحكومة أيضًا في السادس عشر من الشهر نفسه. وصفت جميع البيانات العدوان بـ "حرب إبادة، تستوجب محاكمة دولية للاحتلال وداعميه"، لكنها حاولت استثماره سياسيًا لخدمة سياسات النظام ومواقفه في الأزمة الداخلية؛ إذ اعتبر البيان الصادر عن الحكومة أنّ العدوان الإسرائيلي على غزة يتكامل في أهدافه مع ما تسعى إلى تحقيقه "الحرب الإرهابية على سورية" من استهداف لمحور المقاومة، ومحاولة فرض شروط الاستسلام عليه.
أما رئيس النظام بشار الأسد، فقد اعتبر في خطاب القسم، في 17 يوليو/ تموز 2014، أنّ حكومته سوف تبقى ملتزمة مبادئ القضية الفلسطينية، لكنه ميّز بين المقاومة الفلسطينية وحركة حماس، معتبرًا الأخيرة حركة تدّعي المقاومة، إذ جاء في خطابه "هذا يتطلب منا أنّ نميّز تمامًا بين الشعب الفلسطيني المقاوم الذي علينا الوقوف إلى جانبه وبين بعض ناكري الجميل منه ... بين المقاومين الحقيقيين الذين علينا دعمهم والهواة الذين يلبسون قناع المقاومة، وفق مصالحهم، لتحسين صورتهم أو تثبيت سلطتهم، وإلا سنكون بشكل واعٍ، أو غير واعٍ، نخدم الأهداف الإسرائيلية". وبناء عليه، ظلت القنوات الإعلامية الرسمية السورية، وشبه الرسمية، تلتزم تسمية الفصائل الفلسطينية المقاتلة في غزة بالمقاومة، لكنها تتجنب ذكر اسم حركة المقاومة الإسلامية "حماس" فصيلاً مقاوماً. بل ذهبت إلى حد القول إنّ المقاومة الحقيقية تأتي من فصائل المقاومة المحسوبة على النظام السوري، مثل كتائب "جهاد جبريل" التابعة للجبهة الشعبية – القيادة العامة، والتي يذهب الإعلام الرسمي السوري إلى أنه وقع على عاتقها العبء الأكبر من مقاومة العدوان الإسرائيلي، وإلحاق أكبر الضرر بجيش الاحتلال. والمعروف أنّ هذه الجبهة تقف إلى جانب النظام السوري تمامًا، وتقاتل إلى جانبه في جبهاتٍ عديدة ضد قوات المعارضة في ريف العاصمة دمشق، أما وجودها في غزة فيكاد لا يذكر.
في تعريف المقاومة!
ظلت علاقة النظام السوري بحركات المقاومة محددةً، على الدوام، بمدى توافقها مع استراتيجية بقائه واستمراره وخدمة سياساته الخارجية والداخلية، على حد سواء؛ فعندما كانت العلاقة مع حماس تخدم إستراتيجية النظام الإقليمية، وتزيد من قوة الضغط لديه عند التفاوض مع واشنطن، كان النظام السوري يوفّر لها وسائل الدعم والقوة. وعندما رفضت حماس أن تقف إلى جانبه في قمع الشعب السوري، أصبحت الحركة "ناكرةً للجميل ومدعيةً للمقاومة"! وكان هذا موقف النظام سابقًا من حركات المقاومة الفلسطينية كافة، ولا سيما حركة فتح.
وفضلًا عن ذلك، يصح القول إنّ النظام السوري، وخصوصاً في عهد الرئيس بشار الأسد، كان أبعد ما يكون في تركيبته ونمط حياة أفراده عن فكر المقاومة ومبادئها، ولكن تدهور علاقاته مع الغرب، خصوصاً بعد احتلال العراق واغتيال رئيس وزراء لبنان الأسبق، رفيق الحريري، اضطره إلى ترسيخ تحالفاته مع حركات الإسلام السياسي التي تتبنى خطاب المقاومة. هذا المنطق يوضحه انهيار تقاطعات النظام السوري المصلحية مع الحركات المناوئة لسياسات الولايات المتحدة في فلسطين والعراق؛ إذ اتهمت السلطات السورية حركة حماس بأنها ليست حركة مقاومة، مع أول حالة صدام في المبادئ والقيم الوطنية والإنسانية، على الرغم من أنها هي التي تقاتل إسرائيل فعليًا على أرض الواقع إلى جانب الفصائل الفلسطينية الأخرى. كما بنى النظام في دمشق تحالفًا وثيقًا مع حكومة رئيس الوزراء العراقي المنتهية ولايته، نوري المالكي، بعد الثورة السورية، مع أنّ هذه الحكومة جاءت محمولةً على دبابات الاحتلال الأميركي، وتكرست سلطتها من خلاله.
إنّ "المقاومة" في عرف النظام السوري تقتصر على كل من يقف معه، حتى لو كان مؤيدًا لإسرائيل. أما من يقف ضده فهو خائن، ومدعٍ للمقاومة، حتى لو كان يحارب إسرائيل. (أخيراً ظهرت بوادر نسبة هذه التسمية بحسب التصنيف الطائفي؛ فالصحف الإيرانية، مثلًا، تسمّي حركة الحوثيين في اليمن "المقاومة اليمنية". بهذا، بلغت صراحة الربط بين المقاومة والانتماء الطائفي، أو الانتماء لسياسة الدولة الخارجية، حد العبث).
وعمومًا، يمكن القول إنّ الموقف السوري من العدوان الإسرائيلي على غزة لا يختلف كثيرًا عن الموقف المصري الذي يتحكّم بسياساته الخارجية وعلاقاته بالحركات والقوى الإقليمية هاجسُ بقائه في مواجهة قوى سياسية داخلية، تنازعه الشرعية. لكنّ الموقف السوري يعبّر عن مواقفه بطريقة مختلفة؛ تعتمد على التمسك بلفظ المقاومة، كاستمرار للنظام على مستوى الخطاب، وكي يستمد مشروعيةً، أيضًا، من قضايا وطنية عادلة.