اختلاس نظر.. عربيٌّ في مترو لندن

02 يناير 2016
مترو لندن عالم قائم الذات(العربي الجديد)
+ الخط -
خلال رحلة يومية من غرب لندن إلى وسط مدينة الضباب، يقطع الناس أطراف العاصمة البريطانية تحت الأرض مثل صراصير لم تنل قسطاً وافياً من النوم. في العربة المحشوة بالموظفين والطلاب والسياح والعاطلين والضائعين، ألتحق كل صباح بالأوركسترا البشرية وأفتح صحيفة "المترو" المجانية، أقرأ سطراً وأرفع رأسي سطراً لمطالعة الوجوه والقامات، أقلب الصفحات وأنا أرصد حركات وملامح الجالسين والواقفين المكدسين في عربة قطار الأنفاق، وأنا بذلك لا أفعل منكراً أو أرتكب محرماً، فالجميع يفعلون السلوك ذاته، بل أن بعضهم يفتح جريدته أو كتابه ويأخذ في اختلاس العناوين والأسطر من جريدة جارته أو رواية السيد الرابض على صدر المقعد المقابل، ولا بأس بمتابعة الشابة التي لا تجد حرجاً من تصليح مكياجها في القطار، حتى تتحول في لحظات إلى شخص آخر بخدود وردية وجفون لامعة ورموش سوداء وشفاه فاقعة الحمرة.
لم تشهد رحلة اليوم من "إيلينغ بروود واي" الى "ماربل أرش" أي جديد، كنت أتجول "نظرياً" بين الجريدة والركاب، إلى أن شدني ما تفعله الراكبة الجالسة إلى جانبي الأيسر، سيدة في ربيعها الثمانين ونيف، تجلس بكل وقار، وقد اكتست ألمع ألوان مكياج الوجه وأحمر الشفاه، وربما نهضت من النوم قبل بزوغ الفجر حتى تسرح ما تبقى من شعر نال الدهر منه كثيراً. تقلب السيدة بيد مرتجفة دليلاً خاصاً بالمسارح ودور السينما في لندن، وتحمل باليد الأخرى قلماً صغيراً، تسطر به على بعض العناوين في جدول المحتويات، ثم تبذل مجهوداً ملحوظاً في فتح الصفحة المعنية لتقرأ التفاصيل عن المسرحية أو الفيلم، ولتجد المزيد من المعلومات عن عنوان المسرح أو دار السينما وساعات العرض، وأسعار التذاكر لـ "كبار المواطنين"، نعم هكذا يُسمى كبار السن في البلدان المتقدمة، بينما تطلق عليهم بلادنا صفة "العجزة" أو المتقاعدين في أحسن الأحوال.
سرحت في تجاعيد وجه العجوز الشابة، وقادني الخيالُ بعيداً إلى الوطن، حيث ينتهي العمر التشغيلي للمواطن في العقد السادس من العمر، وقبل أن يرحل المواطن المسكين إلى جوار
ربه، يرحل إلى تقاعد أقسى من الموت. في بلادنا يُحال المرء على التقاعد وكأنه أضحى عالة أو علة على المجتمع، كأنه ترجل من قطار الزمن على حافة كفن، أو كأنه كسرة خبز يابسة تنتظر أن يلتقطها عابر طريق ويضعها على حافة نافذة خشية أن يدوسها المارة فيطاوله ذنب.
في أوطاننا يتقاعد الناس باكراً على الرغم من أنهم – ربما - قضوا نصف العمر قاعدين أو نائمين، أما هذه العجوز الثمانينية فتأبى حتى القعود، وتصر على الحياة حتى آخر الطريق. في بلادنا تنتهي صلاحية المواطن مع بلوغه سن التقاعد، أما في هذه البلاد فالتقاعد يعني بداية حياة جديدة، يتحرر فيها المرء من قيود الوظيفة، فيختار لنفسه أوقات عمل حر أو تطوعي، ويختار بنفسه جدول رحلاته وجولاته، وربما يتفرغ إلى تأليف كتاب أو ممارسة هواية أو تعلم حرفة جديدة.
غادرت العجوز الشابة القطار بعد أن تأبطت "الدليل السياحي"، وخلعت نظارات القراءة، وارتدت نظارات "غوتشي" الشمسية، واندفعت بكل حيوية نحو يوم جديد في حياتها الجديدة، أما أنا فقادني خيالي إلى فكرة مجنونة وهي أن "المواطن" العربي الوحيد الفالت من ظلمة التقاعد وظلمه، هو الحاكم، ففي بلادنا لا يتقاعد الحكام، بل يعتبرون التقاعد عيباً أو عاراً، فالحاكم الصالح يقضي عمره في خدمة شعبه، ولا يُشيع من القصر إلا إلى مثواه الأخير.
يقذفني القطار إلى المحطة حيث أقضي يوم عمل آخر، وفي طريق العودة مساء أطوي صفحة يوم آخر، أعود إلى جوف الأرض لألحق بمواكب العائدين من يوم عمل مرهق. في عربة قطار الأنفاق يجلس الركاب العائدون من يوم عمل طويل صفوفاً من المنهكين، وكأنهم أرتال جيش عاد للتو من معركة خاسرة. إلى جانبي رجل يحاول الإمساك ببقايا أناقة تزين بها بها في الصباح، يغلبه النعاس، فتتدلى عنقه على صدره، وينسدل جسده المرهق على المقعد، حتى يكاد يسقط في حضن الراكب الآخر، يجلس إلى جانبه شاب عاد إلى بيته بوجبة سريعة وربما بقايا طموح لم يتحقق، على الكرسي المقابل تجلس شابة وقد تكشف وجهها بالأبيض والأسود، بعد أن محا عرق النهار ألوان قوس قزح التي تزينت بها صباحاً.

المساهمون