ساري مهاجر شاب يبلغ من العمر 17 عاماً. أُجبر على العمل مع وصوله إلى إيطاليا، في مزرعة طوال أشهر. وهناك استغل مالياً، وأُنهك جسدياً ونفسياً، مع التهديدات الدائمة بالإبلاغ عنه للسلطات. يؤكد أنّه بدأ العمل هذا بعد أن تدبره مهاجرون عرب له. لكنّهم تقاضوا سمسرة على راتبه الصغير. تمكن الفتى من جمع مبلغ مطلوب لتهريبه إلى الشمال الأوروبي. وعندها تمكن من الهروب من المزرعة بمساعدة مهاجرين سوريين. وجرى اتفاق سريع لكي ينضم إلى دفعة من المهاجرين على متن سيارة إسعاف، هي وسيلة التهريب بسائقها الذي يرتدي الهندام الرسمي، تنطلق من ميلانو (شمال إيطاليا) وتتخذ طرقات بين إيطاليا وفرنسا وألمانيا صعوداً نحو نقطة ما في الدنمارك، ومنها إلى السويد.
ساري وغيره، يختفون فجأة من أماكن احتجازهم كمهاجرين غير شرعيين، في إيطاليا بالذات. ويتعرض هؤلاء للكثير من الاستغلال المتعدد الأطراف، لا سيما من المهرّبين الذين يوصلونهم إلى إيطاليا، والمهرّبين الذين يجبرونهم على العمل بأجور زهيدة، ومن بعدها نقلهم إلى أماكن أخرى في أوروبا.
كثير من هؤلاء المهاجرين هم من الأطفال الذين ينتقلون من دون أهاليهم. وتتعدد الجهات التي يأتون منها عبر البحر إلى إيطاليا واليونان، ومنها إلى باقي دول الاتحاد الأوروبي، من أفغانستان والصومال ونيجيريا والعراق وإريتريا وسريلانكا وسورية ومصر وغيرها.
وبينما يجري استغلالهم وإخفاؤهم حال وصولهم، يدور صمت كبير حول القضية، خصوصاً مع الكشف أخيراً عن اختفاء أطفال لاجئين في إيطاليا. وتعمل عصابات تهريب محترفة على تدبر استغلال هؤلاء الذين ينتهي بهم الأمر عادة في العمل في الخفاء لتأمين معيشتهم، خوفاً من طردهم وإعادتهم إلى بلادهم.
كما تحذّر منظمات حقوقية تتحدث لـ"العربي الجديد" من "استغلال آخر يصل إلى حد الاسترقاق. ولدينا ما يثبت أنّ فتيات من دول أفريقية وآسيوية يجري استغلالهن جنسياً".
تشير الأرقام إلى أنّ الأطفال الأفغان هم أكثر المهاجرين الصغار وصولاً إلى أوروبا. فقد بلغ عددهم منذ عام 2001 قرابة 5 آلاف شخص ما دون الثامنة عشر. ويصل هؤلاء الصغار إلى اليونان عبر إيران وتركيا.
ومنذ عام 2012 بدأت إيطاليا تشهد المزيد من المهاجرين القاصرين وحدهم. ولا يختلف حال هؤلاء عن البالغين الهاربين من الحرب في سورية والأوضاع الأمنية والاجتماعية الصعبة في مصر، وسواهما. ويرفض هؤلاء الأطفال، حتى من هم في الخامسة عشر والسادسة عشر (وهم الأغلبية رغم وجود أطفال يتراوح عمرهم بين 10 أعوام و13 عاماً) الكشف عن هوياتهم الحقيقية حين يتحدثون إلى الصحافة.
ومن هؤلاء خالد (16 عاماً) الذي وعد أحد المهربين أهله من خلال وسيط بأنّه سيوصل خالد من ليبيا إلى السويد، خلال فترة وجيزة. ليعمد الفتى بعدها إلى تقديم طلب بلمّ شمل عائلته، أي جلبهم إلى السويد بدورهم.
تقاضى المهرّب ستة آلاف دولار. وبالفعل تمّ تهريب خالد إلى إيطاليا عبر البحر، لكنّه لم يصل إلى السويد بعد تعثر رحلته. فالفتى الذي أمضى 16 شهراً منذ ذلك الحين، وبات في السابعة عشر، لم يحصل على اللجوء الذي توقعه. واختفى من إيطاليا ليعمل في العاصمة الألمانية برلين متخفياً. يقول الشاب: "لم يكن نصيبي كما تخيل أهلي وأقنعهم به المهرّب. فالمركب الذي صعدت عليه كان على وشك الغرق والاختفاء تحت الماء بالكامل، ولم ينقذني سوى لوح خشبي أمسكت به".
جرى إنقاذ خالد يومها، لكنّ كثراً غيره ماتوا في البحر. وفي إيطاليا، وحال وصوله، جرى أخذ بصماته، وهي الطريقة المتبعة في تعريف المهاجرين، والتي تعيق تنقلهم لاحقاً. يقول الفتى: "وصلت إلى برلين على أمل أن يساعدني أحد. لكنني اكتشفت أنّ البصمات ستعيدني إلى إيطاليا". لكنّه يكشف أنّ "مسألة البصمات ستحلّ بعد شهرين فقط بالنسبة لي".
في جملة الشاب الأخيرة يكمن لغز الاختفاء الكبير والمفاجئ للاجئين، فمثل البالغين بات هؤلاء الأطفال خبراء في بنود "اتفاقية دبلن". فبعد سنة ونصف تُلغى بصمة مقدم اللجوء من الحاسوب المركزي الأوروبي لمن يختفي عن أعين السلطات. لذا تجد الآلاف بمثل وضع خالد، الذي يشعر بأنّ بقاءه في ألمانيا متخفياً أسهل له من الوصول إلى السويد وانكشاف البصمة قبل الموعد.
قبل ثلاثة أشهر ابتسم الحظ لخالد، فقد استطاعت عائلته أخيراً الوصول إلى اليونان. لكن عقبات كبيرة تقف أمام لمّ شمل الأسرة، وأهمها الانتقال من هناك إلى السويد.
لا يعتبر هذا النوع من التخفي أمراً غير عادي بحسب ما تكشف لـ"العربي الجديد" مصادر أمنية في دوائر الهجرة واللجوء في كل من الدنمارك والسويد. وتقول المصادر إنّ هناك آلاف الحالات التي عبرت تهريباً من إيطاليا، ومن بينهم أطفال دون الثامنة عشر، وهؤلاء يعيشون في الخفاء على أمل أن ينقضي وقت الاحتفاظ بالبصمة. وتتابع: "لا يمكنك البحث عنهم جميعاً، لكن يجري توقيف أحدهم بالصدفة فيبرز بطاقة باسم شخص آخر، وحين يتم التدقيق، يجري اعتقاله بتهمة الإقامة غير الشرعية بحسب قانون الأجانب. لكننا نعلم كم هي صعبة أوضاع هؤلاء اليافعين الذين يتحملون مسؤوليات لا يفترض أن تلقى عليهم".
التقارير الرسمية السويدية الأخيرة تدعم قصة الاختفاء بالقول إنّ "حوالى 50 ألف لاجئ يعيشون في الخفاء، ومن بينهم قاصرون، بانتظار أن تُمحى البصمة بعد سنة ونصف".
محطة الوصل، ما بين باقي أوروبا والسويد، وهي الدنمارك، تؤكد المصادر فيها أيضاً لـ"العربي الجديد" بأنّ "إلقاء القبض على المهربين يكشف عن تهريب آلاف الأطفال واليافعين إلى السويد عبر الدنمارك من ألمانيا، إما بسيارات تصعد على متن العبارات في شمال ألمانيا، أو براً عبر مدينة كولدينغ، إلى كوبنهاغن ومنها إلى السويد".
من جهتها، تعترف مصادر خاصة أنّ الانخفاض في عدد الآتين من إيطاليا "لا يعني انخفاضاً في أعداد الآتين إلى أوروبا. فالأمر بات مباشراً أكثر من السابق. ولا حاجة للسفر إلى شواطئ البحر المتوسط الجنوبية. فمن داخل سورية والعراق، بل ومن إيران أيضاً، يجري ترتيب رحلات تهريب مباشرة تمر بتركيا واليونان وإيطاليا عبر سيارات ووسائل نقل متعددة، وفي طرق تهريب أكثر جرأة من السابق".