في مستهلّ مجموعته الجديدة "كشتبان"، يُثير الشاعر الفلسطيني زكريا محمد مسألة باتتْ غير خافية في الوسط الإبداعي، تخصّ ما آلت إليه عمليّة الكتابة بعد ظهور مواقع التواصل الاجتماعي وفي مقدّمتها الفيسبوك؛ ففي عالم الما بعد.. أصبحت الكتابة والنشر كما لو أنهما عمليّةٌ تتم بضربة واحدة، إذْ حَدَثَ ما يشبه الإلغاء الجزئي للزمن الفاصل بين لحظة الكتابة وبين القارئ. فبعد ثوان من كتابة "القصيدة" تكون قد وصلت إلى قارئ ما. وهو من جهته يكون قادراً على أن يبدي، وخلال أقل من دقيقة، رد فعله على القصيدة، لكي يلتقطه الكاتب من ثم مباشرة. وهكذا صرنا أمام إنتاج واستهلاك لم يسبق لهما مثيل. دورة في منتهى العجالة.
من هنا، وبناءً على ما سبق، يؤكّد شاعرنا أن انعطافة ما قد حدثت في شعره خلال السنوات الثلاث الأخيرة، فقد حلّ مناخ مختلف في قصائده؛ السطور طالت، الإيقاعات تغيّرت إلى حدّ لا بأس به، الموضوعات اختلفت، كما أنّ قاموسه أدخل كلمات جديدة إلى متنه.
تتنوّع موضوعات مجموعة "كشتبان"، بين مشاهد الطبيعة من حيثُ وصفها وتناولها للجوانب الجماليّة الحميمة والذاخرة بمفرداتٍ كمثل: الطائر والشجر والورد والقمر؛ أو من حيثُ وقوفها على أسئلة القلق الوجوديّ من ميلادٍ أو موتٍ، لكنه يشير في مكانٍ ما إلى أنّ "الشِعر يكذب".
ورغم الحروب والأهوال التي تحيط بنا من كل حدبٍ وصوب، نجد صاحب "جواد يجتاز أسكدار" متمسِّكاً ببريق الأمل، حيثُ يقول: "سوف يهدأ العالم يوماً، وتتوقف الفضائيات المخبولة، وتتفرق الأقدام التي طاردتني، فأعود في الطريق ذاته، الطريق الذي لمحتك فيه. وسوف أجدك على المقعد ذاته: يدك عِرق نرجس، بسمتك حدأة، وقلبك زهرة مشمش. وعندك، تحت ظل مشمشتك، سوف أهدم خيمة يُتمي وأبني بيتي".
من جهةٍ أخرى يَترك زكريا محمد (مواليد 1951) قصائده منفلتةً وخارج أسر العنونة، بحجة عدم نجاحه في العثور على عناوين مغرية. وكون العنوان تفسير المبدع لقصيدته ولعل القارئ لا يكون بحاجة إلى هذا التفسير، لكنه في المقابل يشتغل بروّية على سبك الجُمَل والصور الشعريّة، ومن ثمّ العناية أكثر بالحالة والدفقة الشعوريّة، يقول: "ليس صحيحاً أن لكل طائر أغنية/ ثمة طيور لا تغني أبداً/ تقف على أسلاك الضغط العالي/ وتدير رؤوسها يسرة ويمنة فقط/ اليسار هو الصخرة/ واليمين هو الحجر/ وهي لا تستطيع أن تغني بين الصخرة والحجر/ كما أنها لا تغني لأن الغناء سؤال وكِدْيةٌ أيضاً/ وهي لا تحب أن تسأل وتستجدي/ الغناء للطيور الحمقى/ أما طيور الصمت فتدير رؤوسها، بلا نأمة، بين الصخرة والحجر".
وإذا أردنا معرفة إلى ماذا ترمز "الصخرة" و"الحجر" لوجدنا الحياة والموت، الفناء والخلود، الأبيض والأسود، الخير والشر، وما إلى هنالك من الثنائيّات المتناقضة والمتضادة التي يذخر بها الوجودُ، لذا يميلُ الشاعر إلى الصمت لا باعتباره سكوناً بل كونه أعلى درجات الصوت وما الطائر سوى الكائن التائه في دوّامة وعبثيّة وجوده.
كما نجده في إحدى القصائد يختصر الحياة في بضع حصيّاتٍ "الحياة كومة حصى". وفي قصيدةٍ أخرى تكون مُغايرة وعلى جهة النقيض، حيثُ ثنائيّة الميلاد والفناء، يقول: "الحياة أنبوب؛ الميلاد من هذا الطرف والموت من ذاك". أيضاً؛ ثمّة اشتغال حقيقيّ لدى الشاعر على شعريّة الدهشة والتقاط التفاصيل اليوميّة البسيطة والعابرة، ومن ثمّ ليقوم بتدويرها شِعراً، وهو ما نجده في جلّ قصائد المجموعة، فـ"النهار لا يعرف الليل، مثل جاري الذي يسكن الشقّة المقابلة ولا أعرفه"، و"كل شيء ينفع كبدايةٍ/ تستطيع أن تبدأ بذيل طائر التُّدرج الطويل، أو بالجناح الملغى للحجر".
في قصيدةٍ مدوّرة وبلغةٍ دراميّة تدنو من السرديّة، نقرأ حكاية يوردها الشاعر، على شكل مشاهد أو "أسكيتشات" مُتتاليةٍ، تفصل بينها النقطة أو الفاصلة، لتأتي النهاية أو ما يسمّى ببؤرة الشِعرية كما لو أنها لوحة تم إنجازها بضربة فرشاةٍ، حيثُ يقول: "لمحتك وأنا أركض. لم يكن عندي وقت كي أقف وأقبّل يدك. كانت الدنيا كلها تطاردني كأنني لص، وكان مستحيلاً أن أتوقف. لو توقفت لقتلت. لكنني لمحتك: يدك عِرق نرجس في كأس ماء، فمك عروة زر مفتوحة على صدر قميص، وشعرك حدأة طائرة"..
مجموعة "كشتبان"، هي السادسة لصاحب "أشغال يدويّة"، وفيها تتداخل بحميميّة البساطة والعمق، إذ ثمّة لغة خافتة، تقابلها شِعريّة خصبة، وما بينهما ثمّة أثر حميمٌ نتبعه دون أن نصل إليه، بل نلمح فلسفة الظلّ الجليّة.. تشدّنا إليها، لا تنتهي أو تزول. يقول: "الشِعر منصة عائمة في البحر، وكل واحد يتعلق بخشبته سابحاً علّه يصل إليها".
(كاتب سوري)
من هنا، وبناءً على ما سبق، يؤكّد شاعرنا أن انعطافة ما قد حدثت في شعره خلال السنوات الثلاث الأخيرة، فقد حلّ مناخ مختلف في قصائده؛ السطور طالت، الإيقاعات تغيّرت إلى حدّ لا بأس به، الموضوعات اختلفت، كما أنّ قاموسه أدخل كلمات جديدة إلى متنه.
تتنوّع موضوعات مجموعة "كشتبان"، بين مشاهد الطبيعة من حيثُ وصفها وتناولها للجوانب الجماليّة الحميمة والذاخرة بمفرداتٍ كمثل: الطائر والشجر والورد والقمر؛ أو من حيثُ وقوفها على أسئلة القلق الوجوديّ من ميلادٍ أو موتٍ، لكنه يشير في مكانٍ ما إلى أنّ "الشِعر يكذب".
ورغم الحروب والأهوال التي تحيط بنا من كل حدبٍ وصوب، نجد صاحب "جواد يجتاز أسكدار" متمسِّكاً ببريق الأمل، حيثُ يقول: "سوف يهدأ العالم يوماً، وتتوقف الفضائيات المخبولة، وتتفرق الأقدام التي طاردتني، فأعود في الطريق ذاته، الطريق الذي لمحتك فيه. وسوف أجدك على المقعد ذاته: يدك عِرق نرجس، بسمتك حدأة، وقلبك زهرة مشمش. وعندك، تحت ظل مشمشتك، سوف أهدم خيمة يُتمي وأبني بيتي".
من جهةٍ أخرى يَترك زكريا محمد (مواليد 1951) قصائده منفلتةً وخارج أسر العنونة، بحجة عدم نجاحه في العثور على عناوين مغرية. وكون العنوان تفسير المبدع لقصيدته ولعل القارئ لا يكون بحاجة إلى هذا التفسير، لكنه في المقابل يشتغل بروّية على سبك الجُمَل والصور الشعريّة، ومن ثمّ العناية أكثر بالحالة والدفقة الشعوريّة، يقول: "ليس صحيحاً أن لكل طائر أغنية/ ثمة طيور لا تغني أبداً/ تقف على أسلاك الضغط العالي/ وتدير رؤوسها يسرة ويمنة فقط/ اليسار هو الصخرة/ واليمين هو الحجر/ وهي لا تستطيع أن تغني بين الصخرة والحجر/ كما أنها لا تغني لأن الغناء سؤال وكِدْيةٌ أيضاً/ وهي لا تحب أن تسأل وتستجدي/ الغناء للطيور الحمقى/ أما طيور الصمت فتدير رؤوسها، بلا نأمة، بين الصخرة والحجر".
وإذا أردنا معرفة إلى ماذا ترمز "الصخرة" و"الحجر" لوجدنا الحياة والموت، الفناء والخلود، الأبيض والأسود، الخير والشر، وما إلى هنالك من الثنائيّات المتناقضة والمتضادة التي يذخر بها الوجودُ، لذا يميلُ الشاعر إلى الصمت لا باعتباره سكوناً بل كونه أعلى درجات الصوت وما الطائر سوى الكائن التائه في دوّامة وعبثيّة وجوده.
كما نجده في إحدى القصائد يختصر الحياة في بضع حصيّاتٍ "الحياة كومة حصى". وفي قصيدةٍ أخرى تكون مُغايرة وعلى جهة النقيض، حيثُ ثنائيّة الميلاد والفناء، يقول: "الحياة أنبوب؛ الميلاد من هذا الطرف والموت من ذاك". أيضاً؛ ثمّة اشتغال حقيقيّ لدى الشاعر على شعريّة الدهشة والتقاط التفاصيل اليوميّة البسيطة والعابرة، ومن ثمّ ليقوم بتدويرها شِعراً، وهو ما نجده في جلّ قصائد المجموعة، فـ"النهار لا يعرف الليل، مثل جاري الذي يسكن الشقّة المقابلة ولا أعرفه"، و"كل شيء ينفع كبدايةٍ/ تستطيع أن تبدأ بذيل طائر التُّدرج الطويل، أو بالجناح الملغى للحجر".
في قصيدةٍ مدوّرة وبلغةٍ دراميّة تدنو من السرديّة، نقرأ حكاية يوردها الشاعر، على شكل مشاهد أو "أسكيتشات" مُتتاليةٍ، تفصل بينها النقطة أو الفاصلة، لتأتي النهاية أو ما يسمّى ببؤرة الشِعرية كما لو أنها لوحة تم إنجازها بضربة فرشاةٍ، حيثُ يقول: "لمحتك وأنا أركض. لم يكن عندي وقت كي أقف وأقبّل يدك. كانت الدنيا كلها تطاردني كأنني لص، وكان مستحيلاً أن أتوقف. لو توقفت لقتلت. لكنني لمحتك: يدك عِرق نرجس في كأس ماء، فمك عروة زر مفتوحة على صدر قميص، وشعرك حدأة طائرة"..
مجموعة "كشتبان"، هي السادسة لصاحب "أشغال يدويّة"، وفيها تتداخل بحميميّة البساطة والعمق، إذ ثمّة لغة خافتة، تقابلها شِعريّة خصبة، وما بينهما ثمّة أثر حميمٌ نتبعه دون أن نصل إليه، بل نلمح فلسفة الظلّ الجليّة.. تشدّنا إليها، لا تنتهي أو تزول. يقول: "الشِعر منصة عائمة في البحر، وكل واحد يتعلق بخشبته سابحاً علّه يصل إليها".
(كاتب سوري)